تعريف شعر الرؤيا:
لعل خير ما نعرف به الشعر الجديد هو أنه رؤيا. والرؤيا، بطبيعتها، قفزة خارج المفاهيم القائمة.هي إذن تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد، أول ما يبدو، تمردا على الأشكال والطرق الشعرية القديمة، ورفضا لمواقفه وأساليبه التي استنفذت أغراضها. فقوام الشعر الجديد معنى خلاق توليدي، لا معنى سردي وصفي. إنه كما يقول الشاعر الفرنسي المعاصر‹ رينه شار› : (الكشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف).
ولذلك فإن من خصائصه أن يعبر عن قلق الإنسان، أبديا. الشاعر الجديد، والحالة هذه، متفرد، متميز في الخلق وفي مجال انهماكاته الخاصة، كشاعر. وشعره مركز استقطاب لمشكلات كيانية يعانيها في حضارته وأمته وفي نفسه هو بالذات.
هكذا يمكننا القول إن الشعر الجديد نوع من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة في معزل عن قوانين العلم. إنه إحساس شامل بحضورنا، وهو دعوة لوضع معنى الظواهر من جديد، موضع البحث والشك. وهو لذلك، يصدر عن حساسية ميتافيزيائية، تحس الأشياء إحساسا كشفيا وفقا لجوهرها وصميمها اللذين لا يدركهما العقل والمنطق، بل يدركهما الخيال والحلم. إن الشعر الجديد، من هذه الوجهة، هو ميتافيزياء الكيان الإنساني.
خصائص شعر الرؤيا:
ومن خصائص الشعر الجديد تخليه عن الأمور التالية:
1. التخلي عن الحادثة:
إذ إن هناك تنافرا بين الحادثة والشعر. فعلى الشاعر الحق أن يتناول من مظاهر العصر أكثرها ثباتا و ديمومة - المظاهر التي لا تفقد دلالتها في المستقبل- ذلك أن الشعر العظيم يتجه نحو المستقبل. ثم إن الشعر هو أقل أنواع الفنون حاجة إلى الارتباط بالزمان و المكان، لأنه في حاجة إلى موارد محسوسة، ولا علاقة لنموه وموته بنمو المدنيات وموتها، كما يفكر البعض. فجوهر الشعر، كما يقول ‹بودلير›، هو(السير دائما ضد الحادثة) .
2. الواقعية:
ولأن الشعر الجديد يتخلى عن الحادثة، فهو يبطل أن يكون شعر‹وقائع›، أو شعرا ‹واقعيا› بالمعنى الشائع لهذه الكلمة، إذ يصبح الشعر ‹واقعيا›، يقترب من النثر العادي، لأنه يضطر، انسجاما مع غايته، أن يستخدم الكلمات وفقا لدلالاتها المألوفة. وهذا، بالضبط، ضد مهمة الشعر الحق الذي يفرغ الكلمة من ثقلها العتيق المظلم، ويشحنها بدلالة جديدة غير مألوفة.
3. التخلي عن الجزئية:
ويتخلى الشعر الجديد، أيضا، عن الجزئية، فلا يمكن للشعر أن يكون عظيما إلا إذا لمحنا وراءه رؤيا للعالم. لا يجوز أن تكون هذه الرؤيا منطقية، أو أن تكشف عن رغبة مباشرة في الإصلاح، أو أن تكون عرضا لإيديولوجية ما، رغم أن الشعر الجديد مركز جاذبية لجميع حقول الفكر.
4. التخلي عن الأفقية:
ويتخلى الشعر الجديد عن الرؤية الأفقية، ففي معظم شعرنا المعاصر والقديم ، تبدو الحياة مشهدا، أو ريفا أو نزهة. فهو ينظر إلى الأشياء باعتبارها أشكالا أو وظائف. ولذلك تبدو فيه العلاقة بين الإنسان والعالم علاقة شكلية. بالشعر الجديد نتجاوز السطح، لنغوص في الأشياء وراء ظواهرها، حيث يمكننا أن نرى العالم في حيويته وطاقاته على التجدد، وأن نتحد معه.
5. التخلي عن التفكك البنائي:
ويتخلى الشعر الجديد عن التفكك البنائي. فنحن نرى في معظم القصائد المعاصرة تشققا في هيكلها ووحدتها. هناك مضامين قد تعد حديثة تاريخيا، ولكن التعبير عنها تعبير قديم يقوم على الخطابية وعلى التركيب المباشر، وعلى التشابيه والنعوت والاستعارات التي تخلى عنها الشعر الجديد، واستعاض عنها بالصورة التركيبية: الصورة − الرمز أو الصورة – الشيء.
إذا كان عالم الشعر الجديد هو غير العالم المتواضع عليه، أي العالم الذي لم يحدد بعد فإن ( اكتشاف ما لا يعرف يفترض أشكالا جديدة ) كما يقول ‹رامبو› أي لم تعرف. و الشكل الشعري هو أولا، كيفية وجود، أي بناء فني. وهو ثانيا، كيفية تعبير، أي طريقة.
إن الشعر الجديد باعتباره كشفا ورؤيا، غامض، كتردد، لا منطقي . و لهذا لا بد له من العلو على الشروط الشكلية، لأنه بحاجة إلى مزيد من الحرية، مزيد من السر والنبوة. فالشكل يمحي أمام القصد والهدف. ومع ذلك، فإن تحديد شعر جديد خاص بنا نحن، في هذا العصر، لا يبحث عنه، جوهريا، في فوضى الشكل ولا في التخلي المتزايد عن شروط البيت، بل في وظيفة الممارسة الشعرية التي هي طاقة ارتياد وكشف، فهذه الطاقة الخلاقة في الشاعر تظل فوق الأشكال الممكنة كلها.
علي أحمد سعيد꞉ زمن الشعر. دار
العودة. بيروت. ط.1. 1972 ص꞉9 وما بعدها (بتصرف).