تحليل القصة القصيرة: دم ودخان لمبارك ربيع:

 

دم ودخان:


وضع النص في سياقه الأدبي والفني:

   القصة جنس من الأجناس الأدبية المستحدثة في الأدب العربي. نشأت استجابة لحاجة اجتماعية فرضتها ظروف المجتمع العربي في منتصف وأواخر القرن الماضي. وهي فن درامي يتميز بالاختزال والتكثيف، ويعتمد السرد والحوار للتعبير عن لحظة زمنية محددة. وقد مر تطور فن القصة بالمغرب بثلاث مراحل متتالية، تصدرتها مرحلة الاستعمار، اقتصرت وظيفة القصة خلالها على تحفيز المغاربة على مقاومة الاستعمار وإجلائه، تلتها مرحلة الاستقلال حين تحولت القصة إلى فن أدبي حديث يتسم بالواقعية، ثم مرحلة السبعينيات حيث انصب اهتمامها على القضايا المجتمعية، وتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، والواقعي بالعجائبي، والمحلي بالعالمي. وقد مثل هذه المرحلة عدد من الكتاب، كمحمد برادة، عز الدين التازي، الميلودي شغموم، ومبارك ربيع صاحب المتن الحكائي قيد التحليل.

  • فما مضمون النص؟ 
  • وما الأنساق والقيم الفكرية التي يختزنها؟ 
  • وكيف عبر عنه الكاتب فنيا؟

صياغة فرضية لقراءة النص:   

يحيل العنوان دلاليا على عدم التكافئ بين قيمة ما قد يبذله الإنسان وما يحصل عليه في المقابل، ويسمح لنا أن نفترض أن النص قصة اجتماعية تعرض معاناة أنماط بشرية تؤثث تركيبة المجتمع. وتدعم هذا الافتراض بداية النص التي تعرض وضعية هشة تعيشها شخصية دحمان الرئيسية، ونهايته التي تكرس هذه الوضعية وتحدد الدلالة النهائية للدم والدخان الواردين في العنوان.

المضمون:

    تبدأ الحادثة الحكائية بوقوف دحمان أمام دكان الجزار علي ليشتري قطعة من الكبد على غير عادته، وهو مرهق غير قادر على الكلام، دون أن تشير هذه البداية إلى علة هذا التعب اعترى شخصية دحمان.بعد ذلك انتقل الكاتب ليصور الفرحة التي عمت أسرة دحمان، خاصة أطفاله وهم يرون قطعة الكبد بدلا عن "الكرشة" المعتادة، مشيرا إلى أن الدافع لهذه الطلبية غير المعتادة كون الزوجة تتلمظ. لينتقل عبر استرجاع خارجي ليصور ما حدث مع دحمان في المستشفى، وهو بصدد بيع دمه، وتفاعله مع الطبيب والممرضة من جهة، ومع أسرة المريضة من جهة أخرى، ليعود في الأخير ليؤكد حالة دحمان الهشة التي جاءت بها وضعية الاستهلال، مصورا عدم قدرته على التمتع بالكبد وعلى مشاطرة الأسرة فرحتها.

طبيعة المضمون:

   يبدو إذن، أن موضوع القصة اجتماعي، يعبر الكاتب من خلاله عن معاناة شريحة مجتمعية تعيش على إيقاع الفقر، من خلال تسليط الضوء على نموذج منها. ورغم أن المادة الحكائية لا تعرض صراحة موقف الكاتب من الموضوع، إلا أن استنباط تعاطفه ممكن من خلال أسلوب السخرية  الذي يميل إلى الأسلوب الكوميدي. وهي سخرية من نمط العيش وليس من الشخصية في حد ذاتها.

الشخصيات والعلاقات بينها:

    ويقوم المتن الحكائي على تفاعل عدد من الشخصيات، يمكن أن نميز في إطارها بين شخصية دحمان المركزية، وشخصيات  ثانوية تفاعلت معها لتطور سيرورة الأحداث، كالزوجة، الأولاد، الجزار، الطبيب والممرضة، المريضة وأسرتها، وبعض الحاضرين في المستشفى. وبين دحمان وهذه الشخصيات علاقات تتباين باختلاف وضعياتها في المتن الحكائي بين علاقة نفعية بين دحمان والجزار، من جهة، وبينه والمريضة وأسرتها من جهة ثانية. وعلاقة حب وتضحية بينه وزوجته وأولاده، وعلاقة سخرية واحتقار بينه والحاضرين في المستشفى.

القيم والأنساق الفكرية:

     تبين هذه العلاقات كيف أن النص ينطوي على قيمتين متباينتين. تتعلق أولاهما بالقيم الحقوق-إنسانية المتعلقة بالأساس في الحق في العيش الكريم. وقد تمت الإشارة إلى هذه القيمة في النص، عبر الإشارة إلى غيابها. أما الثانية فتتمثل في بعض القيم الهجينة المبتذلة التي تتفشى في المجتمع، وأوضح تجلياتها استغلال عوز الفئات المحرومة لتحقيق المآرب الشخصية. ويمكن أن نفهم أن الكاتب من خلال إمعانه في تصوير واقع دحمان المادي والنفسي، قد كان بصدد التأسيس لموقف من الموضوع، يتمثل في تأييد القيمة الأولى ودعمها، والدعوة ضمنا إلى نبذ القيمة الثانية.

الزمان:

    ولأن الأحداث لا يمكن إنجازها خارج إطار زمني، فقد كان لزاما أن يعتمد الكاتب نسقا زمنيا ماضيا غابت عنه التعاقبية بسبب توظيف الاسترجاع. وإذا تأملنا الوتيرة الزمنية نجدها تتميز تارة بالتكثيف والاختزال، تنتج عنها سرعة في تعاقب الأحداث، كما كان الشأن في بداية النص أمام الجزار وعند الرجوع إلى البيت. وتارة أخرى تتميز بالتمطيط والتمديد كما الحال عند تصوير لحظات المستشفى، عندما لجأ الكاتب إلى الوصف والتعليق. وهناك لحظات أخرى نكتشف فيها تطابقا بين زمن القصة وزمن السرد، من خلال المقاطع الحوارية التي جاءت في تضاعيف السرد. وإلى جانب الزمن الواقعي، يتداخل في حياة دحمان زمن نفسي يتسم بالبطء، وينسجم إلى حد بعيد مع حالة دحمان المجتمعية ومع قدرته على الحراك.

المكان:

    ولتأثيث فضاء الأحداث اختار الكاتب أحيازا مكانية تنسجم مع الحدث الرئيسي: حيز مفتوح يمثله الوقوف أمام الجزار، مقابل فضاءين مغلقين هما البيت والمستشفى، اللذان  ينسجمان مع طبيعة دحمان النفسية المنغلقة والمنطوية على ذاتها. وإذا كان البيت يمثل فضاء للراحة والسكينة التي ينشدها دحمان، فإن المستشفى والمصطبة لا يشكلان بالنسبة إليه سوى فضاء لمزيد من التعب النفسي.

الحوار:

    ولقد تنوعت المقاطع الحوارية في النص بين حوار خارجي يعكس تفاعل دحمان مع الشخصيات الأخرى، وحوار داخلي يعبر عن تفاعل دحمان مع بعض المواقف كموقف الأولاد من رؤية الكبد، وموقف الإحراج الذي تعرض له في المستشفى.

الرؤية السردية:

    القصة عموما عمل سردي لذلك لا بد من سارد ينقلها إلى المتلقي. وبالنظر إلى هذه النص، فقد اتسم السارد بكونه غائبا ومحايدا، شاهدا على ما يحدث، وفق رؤية سردية تهيمن عليها الرؤية من الخلف، لأن السارد يبدو أكثر علما بحيث يستطيع أن يتغلغل إلى دواخل شخصية دحمان ليكشف أحاسيسها ومشاعرها ونواياها، ويسمح لنفسه في بعض مناسبات النص بالتعليق على الأحداث والشخصيات.

الخطاطة السردية:

    إذا تأملنا وقائع هذه القصة وجدناها تنتظم في خطاطة سردية تقوم على تعاقب مجموعة من الوضعيات: وضعية البداية أمام الجزار، وضعية الوسط في المستشفى، ووضعية النهاية التي تصور دحمان منهكا غير قادر على تناول الكبد.

    وقد ساهمت في تطور الأحداث مجموعة من القوى الفاعلة، يمكن أن نمثلها وأن نحدد أدوارها والعلاقات بينها في النموذج العاملي التالي:



المرسل:       👈     تلمظ الزوجة.
                                        
الموضوع:    👈   شراء قطعة الكبد تلبية لحاجة الزوجة.
                                                      
المرسل إليه: 👈  زوجة دحمان.


  العنصر المساعد:    👈   بيع الدم مقابل عشرة دراهم.                           

 الذات:                  👈   دحمان الشخصية الرئيسية.                                      

العنصر المعاكس:    👈 الفقر والحاجة.
          

                                                               

   وللتعبير عن الموضوع السابق وظف الكاتب استهلالا ديناميا يحيل القارئ مباشرة على قلب الحدث، ونهاية حزينة تندرج في إطار نهايات الرجوع إلى الوضعية الهشة التي جاءت بها المقدمة. وعلى هذا الأساس تكون العلاقة بين الاستهلال والنهاية علاقة تشابه، لأن السارد بدأ بالخلل وانتهى إليه.

الخلاصة التركيبية:

   استنادا إلى المستويات السابقة، يتبين أن النص يعكس إلى حد كبير مقومات القصة الحديثة وإن كان يستلهم موضوعه من تيار فترة الاستقلال، حيث انصب الاهتمام على التعبير عن قضايا مجتمعية كقضية المرأة والفلاح والطبقات الكادحة، ودحمان نموذج منها. وقد اعتمد الكاتب على وحدة الحدث وقلة الشخصيات، وعلى محدودية الزمان والمكان، إلى جانب سمات فنية أخرى كالسرد الذي هيمنت عليه الرؤية من الخلف، والوصف الذي توزعت وظائفه بين التعريف بالشخصيات والأمكنة، وتكسير رتابة السرد، إلى جانب الحوار بنوعيه الداخلي والخارجي. وقد ساهمت هذه المقومات الفنية في بناء متن قصصي تميز بالتشويق والإثارة التي تدفع المتلقي إلى الانجذاب والترقب، والتفاعل مع الأحداث والشخصيات، الشيء الذي طبع النص بسمة خاصة تجعل منه تجربة متميزة، ومن صاحبه علما من أعلام الفن القصصي بالمغرب.

الدكتور عمر عودى( 2014 ): مناهج قراءة النصوص الأدبية للسنة الثانية من سلك البكالوريا: مسلك الآداب والعلوم الإنسانية. الصفحة 107 وما بعدها بتصرف.






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-