تجديد الرؤيا: تحليل نص البئر المهجورة

 نموذج تحليل نص شعري:    البئر المهجورة:


يوسف الخال

1.  وضع النص في سياقه الفني والأدبي:

   مر تطور القصيدة العربية بمراحل متعددة. فبعد إحياء النموذج وسؤال الذات، برز اتجاه تجديدي دأب على تطوير بنية القصيدة من خلال دعوته إلى التحرر من قيود الشروط الصارمة  للمواضعات الكلاسيكية، وجعل الصور الشعرية أكثر تحررا من سلطة الواقع وفق رؤيا يتداخل فيها الذاتي بالموضوعي، والواقعي بالأسطوري والرمزي، وبشكل جعل من القصيدة تعبيرا عن رؤيا ذاتية وإنسانية تستشرف الآفاق الوجودية عموما، وتتجاوز الواقع الحسي المباشر، وتعيد اكتشاف العمق الإنساني، مستثمرة الإمكانات الإيحائية التي تسمح بها الانزياحات اللغوية والصور الشعرية المركبة. وفي إطار هذه الخلفية النظرية انتظم عدد من شعراء الحداثة كأدونيس، أنسي الحاج، محمد السرغيني و يوسف الخال صاحب القصيدة المعالجة.

2.  إشكالية التحليل:

·      فما مضمون القصيدة؟

·      وكيف عبر عنه الشاعر فنيا؟

·      وإلى أي حد يؤكد النص انتماءه لخطابات تكسير البنية؟

3.  صياغة فرضية لقراءة النص:    

تساعد الملاحظة الأولية للفضاء البصري على تبني افتراضات تتعلق بطبيعة القصيدة وبانتمائها إلى خطابات تجديد الرؤيا. فالشكل القائم على أسطر متفاوتة الطول، يجعل منها نموذجا للخطابات التي كسرت بنية الشعر التقليدي، والبنية الدلالية العميقة للمركب الاسمي المكون للعنوان تحيل على  معطى واقعي هو ترك وهجر كل ما من شأنه أن يكون سببا في الحياة الكريمة، ووسيلة لتجاوز تحديات الواقع. ويدعم هذا الافتراض الانتماء الفكري ليوسف الخال الذي نادى بخلق تجربة شعرية جديدة على مستوى الشكل والمضمون، عبر تطويع أساليب إبداعية غير مألوفة، وأشكال مستحدثة تناسب اللامألوف.

4.  تكثيف المعاني الواردة في النص:

    تتدرج القصيدة معنويا مما هو قائم وواقعي، يتسم بانعدام الطمأنينة والسلام والكرامة، ويشوبه القلق والتساؤل حول جدوى الحياة والموت في تغيير الوضع القائم. ويقوم بناء القصيدة على نوع من التساند المعنوي يعتبر بموجبه المقطع الثاني امتدادا للمقطع الأول الذي افتتح بوصف إبراهيم  الرمز نموذجا للتضحية والعطاء، لينتقل إلى التساؤل حول جدوى التضحية بالنفس للخروج من قبضة الاستعمار. ويسترسل المقطع الثاني في هذا التساؤل مركزا على مبادئ ثلاثة يفهم أنها غائبة في ظل الوضع العربي القائم، وهي السلم والطمأنينة والكرامة. والمقطعان الأول والثاني بهذا المعنى رصد لما هو واقعي وجرد لمعطيات لها مرجعياتها في الواقع المادي. ويعرض المقطع الثالث موقفين متناقضين: سلبي يمثله موقف الجنود وتكرسه الأصوات الداعية إلى التقهقر، وموقف إيجابي يمثله إبراهيم بإصراره على التقدم والتحدي. وقد أسهب الشاعر في حديثه عن الموقف الثاني باعتباره السبيل إلى الخلاص، ورغبة منه في تثبيت هذا المبدأ في ذهن المتلقي. وقد جاء المقطع الأخير مدعما لهذا المبدأ من خلال دعوة الشاعر إلى التزام الحياد وعدم إحباط العزيمة في حال عدم التمكن من الاقتداء بموقف إبراهيم.

5.  المعجم:

     معجميا، تواتر حقلان دلاليان لتشكيل الوحدات المعنوية السابقة: حقل الخارق أو الافتراضي، ويحيل على الواقع المستقبلي الذي يستشرفه الشاعر، وحقل المألوف الذي يعكس تجليات الواقع المعاش. وبين الحقلين علاقة تكاملية لأن كلا منهما لا يستمد قيمته الدلالية إلا من خلال الحقل الآخر. ويمكن أن نلاحظ هيمنة واضحة لحقل الآخر في مقابل انسحاب واضح للذات نظرا لما يمثله هذا الانسحاب من انكسار للذات العربية ككل. وعلى العموم، فقد جاء معجم القصيدة مألوفا في غالبيته خاليا من التعقيد اللفظي، إلا أنه غني بالدلالات الإيحائية . ويعكس السطر 27 خاصية أساسية ضمن تعاقدات خطابات الحداثة، متمثلة في خرق الأعراف اللغوية التي اعتبرت عائقا أمام حرية الشاعر في التعبير، حيث حذف الاسم  الموصول رغم صرامة اللغة العربية فيما يتعلق بهذا الحذف.

6.  البنية الإيقاعية:    

على مستوى الإيقاع، نظمت القصيدة  خارجيا على تفعيلة بحر الرجز" مستفعلن "،  تباينت بين تامة تعكس كمال الواقع الذي يستشرفه الشاعر، وناقصة تحيل على نقصان الوضع الراهن. كما وردت القافية مركبة انسجاما مع تعقيد الواقع المعاش وتراكبه. و لإغناء جمالية القصيدة والرفع من مستويات الانسجام الصوتي فيها، تواترت المقاطع حافلة بمظاهر التوازي والتكرار، كتكرار بعض الكلمات المؤثرة دلاليا "إبراهيم، بئر، تقهقروا، الجنود...." وقد تجاوز التكرار في مجمله الدلالة المعجمية للألفاظ المترددة إلى أداة للتعبير عن حالة الشاعر النفسية التي يشوبها القلق والتساؤل.

7.  الصورة الشعرية:

     من حيث الصورة الشعرية، تميزت القصيدة بتنوع الصور الشعرية لاعتمادها آليات بلاغية قامت بالأساس على التشبيه " السطرين 10/42 "والاستعارة " الأسطر 15/ 17/ 18 " . ويمكن أن نلاحظ أن درجات الخرق الممنهج | الانزياح | لم تكن قصوى، واقتصرت على مستهل القصيدة. ورغم ذلك فقد جعلت الكثافة التصويرية الأسلوب إيحائيا ساهم  توظيف الرمز والأسطورة في حيويته. وقد جعل هذا التنوع الصورة الشعرية تخوض نسبيا في أفق الغرابة مكرسة شعرية الغموض التي راهن عليها الشعر المعاصر.

8.  الأسلوب:

    وعلى مستوى الأسلوب، اقتصد الشاعر في بنية الجملة وكثف معانيها بما تقتضيه رؤياه المأساوية للواقع العربي. وانسجاما مع ذلك، وظف بنيات فعلية مضارعة تحيل على الدينامية والتحول وتؤشر على فسحة الأمل التي تشوب رؤيته للواقع. كما وظف بعض الأساليب الإنشائية كالتمني والاستفهام الذي يعكس درجات التساؤل والقلق التي ما فتئت تنتاب الإنسان العربي عموما. وقد جاءت القصيدة عبارة عن بنية درامية استلهمت مقومات الخطاب القصصي واستوفت مكوناته: السارد/ الشاعر، البطل/إبراهيم ، المونولوج الداخلي والحوار الخارجي، مع توظيف مكثف لتقنيتي الوصف والسرد.

9.  الخلاصة التركيبية:

     تبين مستويات التحليل السابقة أن القصيدة تنطوي على رؤيا تستشرف المستقبل، متدرجة من المألوف إلى المفترض. وقد احترمت مواضعات الاتجاهات الحديثة في الشعر بتوظيفها معجما مألوفا كثيف الدلالات، وصورا شعرية تعتمد الرمز والأسطورة، متجاوزة حدود التقريرية والمباشرة. وبتضافر هذه الآليات تحولت القصيدة إلى مرآة تعكس خصائص خطابات الحداثة ومستويات التميز فيها.وقد حاول الشاعر التعبير من خلالها، عن مقصدية تتمثل في كشف سلبيات الواقع ومظاهر النقص فيه، ورسم ملامح مستقبل مفترض يمكن أن يكون بديلا عنه.

الدكتور عمر عودى( 2014 ): مناهج قراءة النصوص الأدبية للسنة الثانية من سلك البكالوريا: مسلك الآداب والعلوم الإنسانية. الصفحة 89.





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-