إحياء النموذج: انبعاث الشعر العربي

  


نموذج نص أدبي:         انبعاث الشعر العربي       محمد الكتاني



النص:

   جاءت حركة انبعاث الشعر العربي مرتبطة بإحياء القديم وبالاطلاع على مذاهب الشعراء القدماء في تناول الأغراض والتعبير عن المعاني، وكان من وراء حركة الإحياء وعي بالماضي، ومن وراء هذا الوعي الشعور بأنه مستقر المثل الأعلى، وهكذا يجب أن  تحفظ المراتب في التعليل، لا أن يلقى بها جزافا بحيث تقع كما يتفق لها أن تقع بين السببية أو المسببية.

    لقد جاءت حركة البعث للشعر العربي على مراحل من التدرج في التحرر من التقليد، فقد انتقل الشعر العربي من طور هو أشبه بالموت، موت المعاني الشعرية في النظم ونضوب ماء العاطفة فيه، واختفاء النزعة الذاتية المميزة لشاعر من شاعر، إلى طور انبعاثه بإحياء المعاني القديمة. فهو بعث بالقياس إلى صورة الشعر العربي القديم. لأن هذا الشعر كان قد بلغ مبلغه من الكمال والقوة في عصور خلت، ثم تحولت عنه الأذواق بدافع الإفراط في التصنع أو طلب التصنيع، ثم  قصرت عن فهمه الطباع، وباعدت العهود المتعاقبة بين المشتغلين بالأدب وبين التراث الأدبي السليم، بانتشار العجمة وانحراف السلائق وضعف اللغة وانتكاس سلطان الدولة العربية، وبذلك خمدت الروح القومية والمشاعر الذاتية.

    فلما عادت هذه المعاني إلى الظهور بزوال موانعها وتوفر أسبابها من انتعاش الروح القومية وسريان الوعي الديني والالتفات إلى الماضي وإحياء تراثه  واجتلاء المعاني الذاتية والوجدانية في الشعر القديم، سرى نسغ الحياة من جديد في جذور الشعر العربي شيئا فشيئا، على نحو من التدرج والانفتاح والاقتراب من سلامة الطبع والبعد عن غثاثة النظم العروضي الثقيل. وهو بعث أيضا بالقياس إلى الماضي. فمن خلال تقويم الشعر على أساس اعتبار القديم منه مستقر المثل الأعلى في هذا العصر كان انبعاثه بمثابة حركة إلى الوراء إلا أنه لم يكن بد من أن تكون هذه الحركة سابقة للقيام بالحركة التالية إلى الأمام .

    و منذ بداية سبعينات القرن التاسع عشر، تبدأ مرحلة جديدة في حياة الآداب العربية وتثمر محاولات شعرية جريئة تمهد الطريق أمام شعراء النهضة. وقد قام بهذه المحاولات شعراء أحسوا بضرورة إحياء الصورة القديمة للشعر، ولكنهم لم يقووا على التحليق في أجواء الشعر الصحيح إلا بشكل محدود، فكانت أشعارهم تدل على البعث بتطلعها أكثر مما تدل بمقوماتها الفنية واقتدارها على المحاكاة والمجاراة، كأشعار الساعاتي وصالح مجدي وعبد الله فكري من المصريين، وناصيف اليازجي ويوسف الأسير وإبراهيم الأحدب من السوريين.

   وكان انبعاث الشعر يعني أمرا واحدا، وهو إحياء الصورة القديمة التي كان ينسج عليها فحول الشعراء المتقدمين. لكن ما طبيعة هذا الانبعاث وما خصائصه؟ 

    وأولى خصائص هذا الانبعاث أنه صحح مفهوم الشعر لدى الشاعر ولدى المجتمع على السواء. فقد كان الشعر قبل فترة الانبعاث قد انحط بحكم عدم فهم رسالته أو بحكم فساد مفهومه لدى الشاعر ومن يتوجه إليه الشاعر بشعره، فاعتبره هذا و ذاك ملهاة و تسلية وفنا من فنون المغالبة بالكلام في صناعة الألفاظ والأوزان ولا تعرض هذه الآفة إلى عصر من عصور الأدب إلا أودت بالشعر في مهاوي الإسفاف والغلو في التصنع وتشويه المعاني وتكلف المحسنات.

    وقد انطلق البارودي في ريادته لبعث الشعر الصحيح من تفسير مفهوم الشعر أو تجديد مفهومه أو إحيائه على السواء. و ذلك حين قدم لديوانه بمقدمة حدد فيها معنى الشعر وكيف تحرك وجدانه به. وقصارى القول في هذا الفهم، أن الشعر عند البارودي فيض وجدان و تألق خيال وأن اللسان ينفث منه ما يجده من ذلك الفيض أو هذا التألق.  وأن رسالة الشعر تهذيب النفس وتنبيه الخواطر واجتلاء المكارم. وأن جيده ما كان مؤتلف اللفظ بالمعنى قريب المنزل بعيد المرمى، سليما من وصمة التكلف، بريئا من عشوة التعسف.

    و ثاني هذه الخصائص أن الشعر أزاح عن نفسه على يد البارودي كل ما طمس رواءه من أصباغ الصناعة البديعية من كلفة التلاعب اللفظي أو من أوضار التقليد كاقتناص التوريات والتضمينات إلى كتابة التاريخ و تطريز الأعاريض  والاحتفاء بضروب البديع. و بذلك قام الشعر من جديد على أسسه القديمة من متانة التركيب وجزالة اللفظ وقوة الجرس.

    أما ثالث هذه الخصائص فهو الاقتباس من القديم بأوسع ما تدل عليه كلمة الاقتباس من معان. فقد تغذت حركة هذا الشعر من الشعر القديم لفحول الشعراء وأعلامهم في عصور الازدهار، تأثرت بصورهم الأدبية وبطرائقهم في التعبير والمجاز، و بألفاظهم ومعانيهم في كل باب من أبواب القول و فنون القريض.

    و رابع هذه الخصائص هو النزعة البيانية في هذا الشعر، و المقصود بها أن شعراء هذا البعث وفي مقدمتهم البارودي استبدلوا الصياغة البيانية من النظم البديعي. فعادوا بالشعر إلى طريقة القدماء وإلى اعتمادهم على المجاز والاستعارة. وعلى هذه الصورة الوصفية المادية أو الملموسة للمعاني عن طريق التشبيه و المجاز.

   ونحب أن نؤكد مرة أخرى هنا أن البارودي لم ينهض وحده بحركة البعث الشعري، بل شاركه طائفة من الشعراء عاصروه. وبذلك لم يكن هذا البعث الشعري مصادفة واتفاقا يفسر بالنبوغ وحده، وإنما كان نتيجة من نتائج حركة الانبعاث القومي والديني، كما فسرنا، ونتيجة أيضا من نتائج الحياة العامة التي كان يحياها العرب في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

محمد الكتاني: الصراع بين القديم والجديد في الأدب العربي الحديث. الجزء 1

دار الثقافة. ط1. 1982. ص: 247 وما بعدها (بتصرف).




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-