سؤال الذات: الشعر الرومنسي

 





نموذج نص أدبي:                         الشعر الرومانسي


عبد المحسن طه بدر.

النص

    أبرز رواد الشعر الرومانسي هم شعراء مدرسة الديوان (العقاد وشكري والمازني)، و شعراء مدرسة أبوللو و أهمهم (إبراهيم ناجي وعلي محمود طه ومحمود حسن إسماعيل و أبو قاسم الشابي)، وشعراء مدرسة المهجر (إيليا أبو ماضي و جبران خليل جبران و ميخائيل نعيمة ونسيب عريضة)، ولعل اكترهم ادعاء للتجديد في هذه المدرسة هم شعراء الديوان و أكثرهم ممارسة لهذا التجديد مدرسة المهجر.

    و لعل أهم ما حققه شعراء هذه المدرسة من نتائج، أنهم أنفوا من الوظيفة الدعاية التي كان الشاعر الإحيائي يقوم بها للقوى السياسية والاجتماعية المتصارعة، وحاولوا بكبرياء شديد أن يخلصوا ذات الشاعر من الخضوع لأي قوة من القوى الخارجية غير قوة إحساسه الذاتي وحده . يقول ميخائيل نعيمة في الغربال "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان يا أخي "، ويصف علي محمود طه الشاعر بقوله:

هبط الأرض كالشعاع السني      بعصا ساحر وقلب نبي

      وأدانت مدرسة الديوان كل محاولة لربط الشعر بغير نفسية الشاعر في تقلبها بين الأمل والرجاء والعجز واليأس والفرح والسرور والحزن. وحملوا على شعراء المدرسة الكلاسيكية لتضحيتهم بذاتهم من أجل المناسبات السياسية والاجتماعية، ولم تعد حياة العظماء أو الأحداث الهامة في حياة الأمة هي منبع الشعر وحدها ،فكل ما يثير الشاعر و يؤثر في نفسه شعر حتى ولو تمثل ذلك في (كواء بسيط) أو في (قرد في حديقة حيوان )، كما صنع العقاد و دعا إليه في ديوان ""عابر سبيل"" . 

   وكما حاولت المدرسة الرومانسية التخلص من الخضوع للوظيفة الدعائية، حاولت تخليص الشعر العربي من الخضوع للتراث الشعري، وكان شعارهم ""نحن لا نعيش حياة العرب القدماء فكيف نكتب شعرا كشعرهم ""، وحملوا حملة عنيفة على التراث العربي القديم وعلى شعراء الإحياء اللذين يعيشون تحت مظلة هذا التراث، ولم يعترفوا، من تراثنا القديم إلا بالشعراء اللذين حاولوا، نتيجة لظروفهم النفسية الخاصة، ربط شعرهم بحياتهم وبطبيعتهم النفسية، فركزوا اهتمامهم على ابن الرومي كما حظي أبو نواس و أشباهه بقدر كبير من اهتمامهم.

     وإذا كانت المدرسة الرومانسية قد رفضت التراث العربي القديم ، فقد حاولت تبني التراث الغربي في الشعر خاصة الشعر الإنجليزي وحاولت تقليده، وإن كانت محاولة تقليد الشعر بطبيعتها أمرا بالغ الصعوبة، وذلك نتيجة لجمالية الشعر الخاصة التي تستند إلى إمكانية التمثل الكامل لأسرار اللغة التي يحاول الشاعر التأثر بها. وبتعبير آخر فإن نجاح محاولة التجديد يتمثل أولا في تغيير نفسية الشاعر وقيمه الداخلية قبل محاولة تقليد تراث الشعر العربي القديم أو الشعر الأوروبي.

    وتمثل هذه المظاهر الثلاثة أهم إنجازات المدرسة الرومانسية، ولكن هذه الإنجازات لم تحقق كل المطلوب منها، وذلك لعجز هذه المدرسة عن اكتشاف الصلة الوثيقة بين مشاكل الفرد ومشاكل الجماعة كما أن ثورتهم الفردية لم تكن طلبا جسورا مجسدا لحرية الفرد في أقصى صورها كما حدث بالنسبة للرومانسيين الغربيين الذين حارب بعضهم دفاعا عن الحرية، ولكنها ـ نتيجة للظروف ـ تحولت إلى نوع من اليأس، وتمثلت في ذات تتقوقع على نفسها لتنشد أغاني حزينة للمرأة، أو تتحدث عن المرأة الحلم التي لا علاقة بينها وبين الواقع، مع الاختلاف النسبي لمدرسة المهجر التي استطاعت بانطلاقها إلى رحاب أكثر إنسانية أن تحقق قدرا من الإنجازات، وأصبحت الثورة التي تعبر عنها الرومانسية العربية ثورة محبطة بلا هدف، فتحولت رؤية شعرائها رؤية ضبابية غامضة فردية معزولة في أغلب الأوقات .

    وإذا كانت ثورة الشعراء الرومانسيين العرب قد ادعت رفض الشعر العربي القديم، فإنها ظلت ترتبط ببعض مظاهره بأكثر من ظاهرة. أولها أن تعبيرهم عن مشاعرهم ظل، بسبب ضبابيته، تعبيرا عاما يتحدثون فيه عن أعلى مثل الجمال أو اليأس أو التلذذ والألم، كما أن مدرسة الديوان ظلت تنظر إلى الشعر في أغلب محاولاتها باعتباره معان وأفكارا، وليس تجسيدا لتجربة إنسانية، كما أن شعرهم لم يخل من وقوعهم أسرى للمدح أو الرثاء الذي سبق لهم أن تمردوا عليه ورفضوه.

   وأخيرا فإن رغبة الشعراء في الاقتراب من الشعر الغربي شيء وقدرتهم على تمثل هذا الشعر شيء آخر، ولا يستطيع شاعر أن يتأثر بتجربة نفسية لشاعر غريب إلا إذا عاش تجربته. وانتهت أغلب محاولات التأثر بهذا الشعر إلى تقليد مباشر لبعض قصائده أو أبياته، أو انتزاع بعض صوره و فرضها على غير سياقها وهو ما تعبر عنه تجربة مدرسة الديوان في أوضح صورة . وكان حصيلة هذه السلبيات و الإيجابيات جميعا أن سقطت أغراض الشعر التقليدية في دواوين هؤلاء الشعراء، وبدلا من الالتقاء بشعر المدح أو الرثاء أو الهجاء أو الغزل، أصبحنا نواجه عناوين أكثر التصاقا بالوجدان، سواء أكان هذا العنوان عنوان ديوان أم قصيدة .

   و ليس معنى تغير الموضوع أن كل شيء قد تغير ، فلم يتخلص مضمون هذا الشعر من التركيز تركيزا شديدا على علاقة الرجل بالمرأة، و لكن هذا الشعر لم يجسد في أغلبه تجارب متخيلة بقدر ما عبر عن مشاعر وهمية بصورة معممة و ضبابية يتحدث فيها الشاعر عن المرأة الحلم أو المرأة الملاك، في حديث عام يركز فيه الشاعر على مطلق المرأة وشعوره إزاءها، بدلا من الوقوف على تجربة محددة تحدد مشاعر محددة إزاء امرأة محددة. و ذلك باستثناء مدرسة المهجر التي استطاعت في بعض تجاربها أن تتخلص نسبيا من هذه الأحكام المطلقة والمثالية، أما مدرسة الديوان فاعتمدت أساسا على إطلاق الأحكام العامة التي تبقى في إطار الفكرة وليس في إطار التجربة المتَعَيّنَةِ.

     وإذا كان مضمون شعر هذه المدرسة قد حاول في الظاهر الارتباط بالشعر العربي، إلا أنه ظل في النهاية مرتبطا به بأكثر من صلة كما سبق و أشرنا إلى ذلك، لأن شاعر المدرسة الرومانسية ظل عاجزا عن تغيير طبيعة صوره. فشعراء مدرسة الديوان كانت صورهم تقليدا للقديم أو نقلا لحديث كما يشير المازني و قل اهتمامهم بالاستعارة، حتى اتهم العقاد بأن شعره يكاد يخلو منها، مما يقربه إلى جفاف النثر العلمي، و لم يجد ما يرد به على هذا الاتهام سوى الإدعاء بأن الاستعارة في المال واللغة فقر، وهو رد إن أعجبتنا قدرته الشكلية فإنه لا يمثل ردا على الاتهام، ولكنه يمثل اعترافا به. وظلت مدرسة أبوللو تتصيد الاستعارة الجميلة جمالا مطلقا بصرف النظر عن مساهمتها الأصلية في السياق و التعبير.     

       و نتيجة للنظر إلى الشعر باعتباره فكرة ومعنى، أو تعبيرا عن موقف عام ومطلق، لم تغير المدرسة الرومانسية موسيقى الشعر العربي تغييرا جذريا رغم الدعاوى العريضة التي طالبت بها المدرسة للتخلص من الوزن والقافية، واستوعبت الموسيقى التقليدية تجاربهم الشعرية. وغاية ما وصل إليه اجتهادهم اللجوء إلى شكل الرجز التعليمي أو المزدوج، وأقصى ما وصلوا إليه هو شكل الموشح القديم، وإن كانت مدرسة أبوللو قد أفلحت عموما في العناية بموسيقاه بشكل عام بصرف النظر عن التوظيف الجيد لهذه الموسيقى، وكانت مدرسة المهجر أقدر هذه المدارس وأكثرها جرأة على التغيير في الشكل بحكم صلتها الأوثق بالحضارة الأوروبية.

عبد المحسن طه بدر. دراسات في تطور الأدب العربي الحديث .دار المستقبل العربي . ط 1 .1993 .




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-