تكسير البنية: قضايا الأطار الموسيقي الجديد للقصيدة

 



 نموذج نص أدبي:  قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة




عز الدين إسماعيل.

النص:

    كل من يتتبع أشكال التجديد و التطور في موسيقى شعرنا المعاصر يستطيع في يسر أن يحدد ثلاث مراحل أساسية:

   المرحلة الأولى :

هي مرحلة " البيت " الشعري، ذي الشطرين المتوازيين عروضيا، الذي ينتهي بقافية مطردة في الأبيات الأخرى. وفي هذا النوع من البيت الشعري تتمثل كل القيم الجمالية الشكلية التقليدية التي عرفها الشعر العربي منذ البداية.

   والمرحلة الثانية :

هي المرحلة التي فتتــت فيها البنية العروضية للبيت، واكتفي منها بوحدة واحدة من وحداتها الموسيقية هي" التفعيلة " تقوم وحدها في السطر أو تتكرر في عدد غير منضبط في بقية السطور. وهذه المرحلة هي مرحلة " السطر " الشعري. أما المرحلة الثالثة فمرحلة متطورة عن المرحلة السابقة، ويمكن تسميتها بمرحلة " الجملة الشعرية". وكل مرحلة من هذه المراحل لها مشكلاتها الجمالية. وهذا ما نود أن نعرض له الآن تفصيلا.

   ـ جماليات موسيقى البيت : 

   النظام عنصر أساسي في الأعمال الفنية على اختلاف أنواعها. ولكل فن من الفنون وسيلته الخاصة وقواعده الأساسية التي توفر للعمل الفني هذا العنصر. وقد تحدد النظام في القصيدة التقليدية في التزام بعض القواعد الشكلية الضابطة للأوزان والقوافي. وهذه القواعد هي الملتزمة في كل الشعر التقليدي. وقد كان من أهم ما وجه إلى تجربة الشعر الجديدة أنها كسرت صورة ذلك النظام، وأن القصيدة الجديدة قد تورطت من حيث إطارها فوقعت في الفوضى حين كسرت ذلك النظام العتيد.

   وفي الإطار الجديد للقصيدة نظام كذلك، ومن التجني أن نقول إنه إطار فوضوي لا يعرف النظام، وأنه لذلك يجافي الفن. لكن النظام الذي يتمثل في هذا الإطار نظام داخلي، أو لنقل إذا نحن تحرينا الدقة - إن معظم هذا النظام داخلي، ينتمي إلى الشيء نفسه (القصيدة) وينبع من داخله، وليس شيئا (تصورا) خارجيا مفروضا عليه.

جماليات موسيقى السطر الشعري : 

   والسطر الشعري تركيبة موسيقية للكلام لا ترتبط بالشكل المحدد للبيت الشعري، ولا بأي شكل خارجي ثابت، وإنما تتخذ هذه التركيبة دائما الشكل الذي يرتاح له الشاعر أولا، والذي يتصور أن الآخرين كذلك من الممكن أن يرتاحوا له. وقد سبق أن قررنا أن هذا الشكل الجديد لم يستبق من صورة النظام القديم للبيت إلا الوحدة الموسيقية الأساسية التي تتكرر فيه وهي " التفعيلة ". 

   وأود هنا أن أوضح هذه الحقيقة: التفعيلة من غير شك هي أساس النظام الصوتي الذي يقوم بتكراره الشعر. فإن يكن للبيت التقليدي نظام خاص يتعلق بعدد التفعيلات المستخدمة في البيت، فلقد جاء هذا النظام تاليا - في تصوري- لنظام آخر أدق وأخص، هو نظام التفعيلة ذاتها. وكل من يراجع كتب العروض يدرك من غير شك أن نظام التفعيلة يمثل أساسيات العروض، وأنه نظام معقد نوعا ما.

      وإذن فلم يكن أمام محاولة التجديد في الإطار الموسيقي للقصيدة إلا أن تسلم بنظام التفعيلة وتلتزم به، مادام نظام الضربات الثقيلة والخفيفة لا يمكن الركون إليه. والحق أن نظام التفعيلة هو النظام الذي تفرضه طبيعة هذه اللغة. ومن ثم كان الخروج على نظام البيت مشروعا، مادام النظام الأساسي والضروري قائما، وهو نظام التفعيلة.

موسيقية الجملة الشعرية : 

   أما الصورة الثالثة من صور التشكيل الموسيقي للشعر الجديد فصورة الجملة الشعرية، وهي - كما قلنا- الصورة المتطورة عن صورة السطر الشعري. فإذا كان السطر الشعري بنية موسيقية تشتغل من حيث الحيز سطرا من القصيدة، يصل امتداده الزمني، في بعض الأحيان وفي أقصى الحالات، تسع تفعيلات.

   وإذا كانت هذه البنية مكتفية بذاتها وإن مثلت جزئية ترتبط موسيقيا بباقي الجزئيات وتتفاعل معها، فإن الجملة الشعرية بنية موسيقية أكبر من السطر وإن ظلت محتفظة بكل خصائصه. فالجملة تشغل أكثر من سطر، وقد تمتد أحيانا إلى خمس أسطر أو أكثر. ولهذا الامتداد اعتبارات نرجو أن نعرض لها الآن، لكن الجملة تظل - مع هذه الاعتبارات- بنية موسيقية مكتفية بذاتها وإن مثلت في الوقت نفسه جزئية من بنية عضوية أعم من القصيدة.

     وكل من عانى تجربة الشعر يعرف كيف تمتد الدفقة الشعورية في النفس في بعض الأحيان فتبلغ حدا من الطول لا يقبله إطار البيت التقليدي المحمود الطول، المغلق بقفل القافية، كما لا يكفيه السطر الشعري الواحد وإن امتد زمنيا إلى تسع تفعيلات. 

   وقد كان الشاعر التقليدي مضطرا - بحكم تحركه عمليا في إطار البيت- لأن يمزق هذه الدفقة الشعورية الممتدة ويقسمها موسيقيا على عدة أبيات، أي عدة وحدات موسيقية، ينفصل بعضها عن بعض ويستقل. ومعنى هذا أن الدفقة الشعورية الممتدة لا تظفر من الشاعر  ببنية موسيقية موحدة وموازية ومساوية لهذه الدفقة.

     وضرورة الإخلاص لطبيعة الشعور الذي تتحرك به النفس تقضي بـأن تكون الصورة التعبيرية بكل مقوماتها - والمقوم الموسيقي بصفة أساسية فيها- طليقة تتحرك مع هذا الشعور في مرونة وطواعية. ونحن نصدر هذا الحكم عن تسليم مبدئي بحقيقة أن التعبير ملك وتابع للشعور ليس العكس. فإذا كنا بسبيل دفقة شعورية ممتدة فينبغي أن تكون الصورة الموسيقية ممتدة ومعبرة عن هذا التدفق.

    وقد كان الخروج إلى السطر الشعري وسيلة ناجحة لإحداث هذا النوع من التساوق الجمالي بين الشعور وصورة التعبير، فكان السطر ينتهي مع الدفقة، فإن كانت قصيرة قصر، وإن كانت ممتدة امتد، ولكن، لعله قد تبين للشعراء أن السطر مهما امتد فإن له طولا "معقولا" لا يستطيع أن يتجاوزه، وأن الدفقة قد تمتد في بعض الأحيان إلى مدى أبعد. ومن ثم يمكن أن يقال إن فكرة السطر الشعري قد حلت مشكلة الدفقة السريعة أو القصيرة، ولكنها لم تحل مشكلة الدفقة الممتدة إلا جزئيا، وكان لابد عندئذ من تطويع الشكل التعبيري للشعور، مهما امتدت دفقة هذا الشعور، ومن هنا كان لابد من الخروج إلى ما سميناه بالجملة الشعرية.

عز الدين إسماعيل. الشعر العربي المعاصر: قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية دار الكتاب العربي للطباعة والنشر. القاهرة. 1967. ص 79 وما بعدها بتصرف.

 





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-