تكسير البنية: تحليل نص لنكن أصدقاء

 


نموذج تحليل نص شعري:       لنكن أصدقاء  



نازك الملائكة

1. وضع النص في سياقه الأدبي والفني:

نشأت حركة تكسير البنية في سياق تحولات اجتماعية وثقافية فرضتها مواجهة الاستعمار ووقع نكبة فلسطين. وكان هدفها تشخيص التحول في الفكر والتقدم في الرؤية، وتوجيه سلوك المتلقي وفكره وأسلوب حياته عبر الدعوة إلى التغيير وامتلاك وعي متحرر يتجه نحو المستقبل، ويخرج من دائرة جمود الأفكار والتقاليد المانعة من التجاوب ومتطلبات العصر.

 ولم تتوقف حركة تكسير البنية عند حدود التحرر من التقيد الجزئي من قيود القافية وموضوعات الشعر القديم، على غرار الرومانسية، بل تجاوزت ذلك إلى تشييد الوحدة العضوية وكسر تفعيلات البحور، وخرق الأعراف اللغوية وتوسيع أفق الصورة الشعرية. 

وقد أرسيت دعائمها على يد جيل من الرواد، كانت لهم الجرأة على تكسير البنيات القديمة وتجريب أدوات فنية جديدة وتوظيف تعبيرات ورؤى حديثة، كعبد المعطي حجازي، صلاح عبد الصبور، أحمد المعداوي، وقائدة الحركة نازك الملائكة، صاحبة القصيدة المعالجة، والتي كرست إبداعاتها لبناء الحياة الإنسانية وتحسينها، وإخراج الإنسان من صخب همومه وتعقيدات مشاكله اليومية.

2. إشكالية التحليل:

  • فما مضمون القصيدة؟
  • وما الأنساق الفنية التي عبرت عنه؟
  • وإلى أي حد يعكس النص تعاقدات اتجاه تكسير البنية؟

 3. صياغة فرضية لقراءة النص:

  بالنظر إلى مشهد القصيدة الفيزيائي، القائم على أسطر شعرية متفاوتة الطول، وإلى الفراغات الدالة بين المقاطع، يمكن أن نفترض أن النص نموذج من خطابات تكسير البنية، وإسهام من نازك الملائكة في إطار هذه التجربة الجديدة. 

ويدعم هذا الافتراض، مؤشر العنوان الذي يتضمن دعوة صريحة إلى الصداقة والتعاضد لمواجهة تحديات الوجود، والذي يعكس دأب المحدثين على التعبير عن تجارب تلتحم فيها الذات بالجماعة، إضافة إلى النزعة الفكرية والأدبية لنازك الملائكة، باعتبارها من أوائل من نظروا لهذه التجربة الشعرية.

     4. تكثيف المعاني الواردة في النص:

   تتشكل وحدة النص الموضوعية من أربع وحدات دلالية تترابط ارتباطا منطقيا. صدرتها الشاعرة بتحديد الفضاء الذي يقتضي الصداقة التي تدعو إليها، وما يميزه باعتباره وجودا قائما تؤثثه مظاهر الدمار والفناء، وتحيط به الكآبة من كل الأرجاء. 

بعد ذلك انتقلت إلى تحديد الداعي إلى هذه الصداقة، والمتمثل في مواجهة مظاهر القهر والاستبداد. وبعد أن حددت عاقبة المتسببين في مآسي المستضعفين، خلصت إلى تحديد طبيعة المستهدفين بهذه الصداقة، من أولائك الذين يتقاسمون ظروف الاستضعاف والمعاناة.

   النص بهذا المعنى تعبير عن وضع قائم، وتمثيل لإيقاع مجتمعي معاش تحركه وضعيات إنسانية متباينة. إلا أن الشاعرة تتجاوزت فيه القراءة الواصفة لمظاهر البؤس والشقاء، إلى اقتراح الحل الأمثل لتجاوز هذه المظاهر، باندماج الذات والجماعة لبناء وجود أفضل، وتلك خاصية من خصائص خطابات تكسير البنية.

  5. المعجم:

    وللتعبير عن هذه الرؤية، استعانت الشاعرة بمعجم شعري يستمد مرجعيته الدلالية من حقلين أساسيين: حقل الفوضى والدمار ( الضحايا، البكاء، العبيد...) وحقل البشارة والانعتاق ( أصدقاء، الحياة، بشر...). بين الحقلين علاقة مبنية على قانون السبب والنتيجة، على اعتبار أن الحقل الأول كان منطلقا واقعيا استلزم استشراف مستقبل سلمي وآمن. 

ويمكن أن نلاحظ ، إلى جانب الحقلين تواترا واضحا لمعجم آخر يحيل على مختلف القيم والمبادئ الحقوق-إنسانية ـ من قبيل الحرية والحق في الحياة.... والمعجم في مجمله سهل متداول، خال من التعقيد اللفظي، قائم على خاصية الثنائيات الضدية التي ميزت خطابات تكسير البنية.

   6. البنية الإيقاعية:

    من حيث الإيقاع، نظمت الشاعرة قصيدتها على بحر المتدارك، مع توزيع غير اعتيادي لتفعيلاته التي يختلف عددها بتفاوت امتداد الأسطر الشعرية، موظفة قافية متتالية يتواتر فيها الروي في كل سطرين متتابعين أو أكثر. 

ولتقوية التعادلات الصوتية، وتعزيز الطاقة الإيقاعية الداخلية في النص، جاءت الجمل الشعرية حافلة بمظاهر التكرار ( تكرار الحروف والكلمات والصيغ الصرفية واللازمة)، إضافة إلى بعض الطباقات (أصدقاء/ أشقياء، صحارى/مدن..)، والجناسات ( الديار، البحار- ثلوج، زنوج...)، التي عززت مستويات التناسب الصوتي والتناغم الإيقاعي في النص. 

وانسجاما مع مظاهر التناقض بين عالمي الفوضى والدمار، والحرية والانعتاق، وردت تفعيلات بحر المتدارك متراوحة بين تامة وناقصة بسبب التحويرات التي طرأت عليها بفعل الزحافات والعلل، وبفعل تكسير نظام الوقفتين الدلالية والعروضية، وغيرها من ضروب التدوير أو التدفق الإيقاعي.

7. الصورة الشعرية:

   ولتشكيل مختلف الصور الشعرية، راهنت الشاعرة على تكاثف أسلوبي الاستعارة ( يمشي الدمار، يحيا الفناء..)، والكناية ( الموكب الأسود، تذوب بكاء...)، على حساب الأدوات التعبيرية الأخرى كالتشبيه، وعلى حساب آليات اشتغال الصورة الشعرية لدى المحدثين من رموز وأساطير، وهو ما شكل انزياحا نسبيا عن مواضعات مدرسة تكسير البنية، وإن كانت الأساليب المعتمدة بكثافتها كافية لإتمام معالم تيمة النص الكبرى.

8. الأسلوب:

   على مستوى الأسلوب، تظهر هيمنه واضحة للأساليب الخبرية على حساب بعض البنيات الإنشائية، كالاستفهام (.. ينادون أين المفر؟)، والأمر في جملة اللازمة. ويمكن أن نلمس توظيفا مكثفا للبنيات الفعلية المضارعة، التي تؤشر على الدينامية والتحول المنشود، الذي يفترض أن يطال الواقع المعاش.

9. الخلاصة التركيبية:

   تبين مستويات التحليل السابقة كيف أن نازك الملائكة تمكنت من تجسيد جملة من الثوابت والقرائن المميزة لشعر التفعيلة، كالسطر الشعري، والتوزيع الحديث للتفعيلات، ونظام المقاطع وتعدد القافية وحرف الروي.

 وقد سخّرت جل هذه المواضعات لتنقل رسالة إنسانية تحمل الدعوة إلى السلام والأمان، عبر الحث على المساواة والإخاء، ونبذ التناحر والصراع. وللتعبير عن هذه المقصدية،  وظفت العديد من الوسائل الشعرية الحديثة، تجاوزت مستوى الإيقاع إلى الصورة الشعرية والأسلوب. وكل هذه الآليات التعبيرية تؤكد صحة الفرضية التي وجهت خطوات التحليل، والتي سبق وأشرنا إليها سابقا في المقدمة.

الدكتور عمر عودى( 2014 ): مناهج قراءة النصوص الأدبية للسنة الثانية من سلك البكالوريا: مسلك الآداب والعلوم الإنسانية. الصفحة 71.






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-