مفهوم الغير:

 

مفهوم الغير:

تأطير إشكالي:

إن التفكير في مفهوم الغير، وفي المشاكل التي تطرحها علاقة الأنا بالغير، هو تفكير حديث شيئا ما، تبلور بشكل واضح مع الفيلسوف ديكارت الذي مجد الذات المفكرة. وبتمجيده لها أدخلها في عزلة مطلقة (الأنا وحدية): فهو يعتبر وجود الذات هو الوجود الحقيقي، أما الغير، وكل ما يوجد خارج الذات ويواجهها، فهو وجود افتراضي واحتمالي. وسيكون تصور ديكارت موضوع انتقاد مجموعة من الفلاسفة بعده.

فما هو هذا الغير الذي يواجه الذات؟

لا بد من التمييز بين مفهومين هما :

الآخرl’autre :   هو المختلف عن الذات بوجه عام، سواء كان بشرا أو حيوانا أو شيئا.

الغير l’autrui :  جمعه أغيار. ويعني الآخر البشري. إنه ذات بشرية تملك وعيا وإرادة.

وبتعبير سارتر هو "الأنا الذي ليس أنا" : فهو أنا أو ذات، يشبهني من حيث أن له جسد ووعي وتفكير وإرادة. لكنه أنا مختلف عني وعيه ليس هو وعيي، وتفكيره ليس هو تفكيري. إنه أنا آخر(شخص آخر) مطابق لذاته ومخالف لذاتي، يوجد خارج ذاتي ووعيي ويواجهني في العالم.

تنشأ إشكالية الغير انطلاقا من كونه ذاتا تشبهني، ومن كونه يوجد معي في العالم: إن تحليلا أوليا لبعض مشاعرنا – مثل الحب والصداقة والتسامح والكراهية والعنف- ليبين أهمية حضور الغير في إحداث هذه المشاعر في تركيبتنا النفسية. بل إن أفكارنا ولغتنا لا تؤدي وظائفها إلا إذا افترضنا حضور الغير الذي نتواصل معه.

فماذا يشكل وجود الغير لوجود الأنا؟ هل يشكل وجوده ضرورة بالنسبة للأنا؟ كيف يتحدد وعي الذات من خلال الغير؟ هل يمكن معرفة الغير؟ على أي أساس تقوم هذه المعرفة؟ وما هي العلاقة التي تربط الأنا بالغير؟ هل هي علاقة تكامل أم صراع؟

 وجود الغير:

إشكال المحور: هل وجود الغير ضروري بالنسبة للأنا؟ كيف يتحدد وعي الذات من خلال الغير؟

جون بول سارتر (ظاهرة الخجل) :

يؤكد سارتر على ضرورة وجود الغير بالنسبة للأنا، فهو بمثابة الوسيط الذي يكشف وجود الأنا في العالم، وهو ضروري لاستكمال وعيها بذاتها.

ويشرح سارتر هذه الفكرة بمثال ظاهرة الخجل كظاهرة نفسية تنتاب الأنا أحيانا، ولا يمكن الشعور بها إلا بحضور الغير ونظرته. فقد تصدر عني حركة غير لائقة، فلا أحكم عليها لأنني أعيشها لذاتي، لكن بمجرد ما ألاحظ شخصا يراقبني أشعر بحالة من الخجل تجمد حريتي وعفويتي، لا أجد لها مخرجا إلا بالتستر عن نظرات الغير.

إن الشعور بالخجل يجعلني أكتشف مظهرا من وجودي كذات تتأثر، وأشعر بأن الغير يسكن وعيي لأن الخجل ليس ظاهرة تأمل ناتجة عن تفكيري. ومعنى هذا أن للغير تأثير كبير على مكونات وجودي كذات. فعندما يراني فإنه يصبح خارجا عني ومنفلتا مني، ويصبح قادرا على تأويل سلوكي ومنحه معنى يمكن أن يكون مخالفا للمعنى الذي أتصوره أنا. فالغير يحكم علي من الخارج، وهذا الحكم يصبح جزءا من الحكم الذي أصدره على نفسي.

إن نظرة الغير تحولني إلى موضوع، وتشيئني، وتسلب حريتي، لكنها ضرورية لاستكمال وعيي بذاتي. فبالرغم من أن الغير يقيد تصرفاتي ويشعرني بالخجل، إلا أن وجوده ضروري للوعي بكل جوانب وجودي.

مارتن هايدغر:

إن الأنا ( الإنسان ككائن واع ومفكر) لا يمكنه أن يوجد إلا مع الغير، أي الوجود في حياة اجتماعية مشتركة (الوجود - مع – الغير). وعندما يوجد الأنا مع الغير، لا يكون الأنا مطابقا لذاته، ولا يشكل وجوده أٌية خصوصية فردية: فالحياة الاجتماعية المشتركة تخرج الأنا من وجوده الفردي المستقل إلى وجود جماعي مفروض عليه، فتصبح الإمكانيات المتاحة له مشتركة مع الغير وفي متناوله.

والغير في الحياة الاجتماعية لا يمثله شخص متعين، بل يمثله عامة الناس أو الآخرون الذين يمارسون هيمنة على الأنا. هذه الهيمنة تقويها الذات نفسها عندما تنتمي إلى الجماعة بحيث تصبح في قبضة الغير.

إن وجود الغير يشكل تهديدا لوجود الأنا، فعندما توجد الأنا مع الغير في حياة مشتركة، تفقد هويتها وخصوصيتها وتميزها وتفرغ من كينونتها. مثال: الانخراط في الحياة الاجتماعية يذيب كل اختلاف بين الأنا والغير. يظهر ذلك في استعمالنا لوسائل النقل العمومية، وفي استفادتنا من مختلف الخدمات. فالكل يستفيد منها فيصبح الواحد شبيها بالآخر، فيفقد الأنا بذلك استقلاليته وتختفي هويته في الجماعة.

تركيب:

يمكن أن نستخلص من هذا المحور أن:

 - وجود الغير ضروري لوجود الأنا. بالتفاعل معه تستطيع الأنا استكمال وعيها بذاتها وكشف بنيات وجودها.

- وجود الأنا مع الغير وتأثيره الكبير على مكونات وجودها، يهدد الأنا بإخفاء هويته في الجماعة، فيظهر الأنا وكأنه لا أحد.

- إن قضية وجود الغير تمكننا من التفكير في بنيات الوجود الإنساني وتكشف تجلياته ودلالاته ومعانيه. وتطرح هذه القضية إشكالات تتعلق بمعرفة الغير والعلاقة معه.

ذ.الطالب عبد الكبير: أستاذ مادة الفلسفة.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-