سمات النص المسرحي:


سمات النص المسرحي :

المعايشة:

 أولى سمات النص المسرحي هي (المعايشة).  لكن حالة المعايشة التي هي أخص خصائص المسرح و التي هي أعظم ميزاته، هي أيضا صعوبته ومشكلته، والتي كانت السبب في افتقاد كثير من أعظم المسرحيات لأهميتها مع مرور الزمن على عكس بقية فنون الأدب والفن التشكيلي. فالملاحم و الروايات والقصائد واللوحات والمنحوتات تحتفظ ببهائها وعظمتها مهما تطاولت عليها القرون. والمعايشة التي هي الصفة الأولى للمسرح تعني أنه فن يطلب منه أن يتحدث عن مشاكل عصرنا وعن همومنا الفكرية والسياسية والاجتماعية والإنسانية بجلاء واضح لا مواربة فيه إلا مواربة الفن.

الآنية :

ولذلك كانت (الآنية) ثاني خصائص المسرح. والكاتب المسرحي لا يستطيع أبدا أن يهرب من مواجهة مشاكل عصره الآنية سواء كانت حكاية المسرحية معاصرة استمدها من وقائع الحاضر أم من أحداث الماضي. وحالة التماهي والاندماج لا تكتمل على الإطلاق إذا لم يشاهد المتفرج المتلقي ذاته وعصره ومشاكله وهواجسه على خشبة المسرح أمامه. و مقدار ما يستطيع الكاتب - ومعه فريق العرض المسرحي- أن يقترب من هذه الآنية ويغوص فيها، يضمن لنفسه النجاح الكاسح. لكن هذه الآنية لا تتحقق للنص المسرحي إلا إذا وضعت ضمن بوتقة العواطف الإنسانية الخالدة التي تقوم على صراعات محددة لم يخرج تاريخ المسرح عنها أبدا. وملخصها هو الصراع بين الخير والشر بمعناهما الواسع الطيف الذي يضم كل النوازع البشرية. وحينما يستطيع الكاتب وضع آنية عصره ضمن ديمومة صراع نزعات البشر، فإنه يحقق لنفسه الخلود. فكأن الآنية التي هي آفة فناء المسرح هي في الوقت نفسه جوهرته ودرته الثمينة.

الديمومة:

    و بذلك تكون (الديمومة) ثالث سمات النص المسرحي. لكنها ديمومة ليست منفصلة أبدا عن الآنية. وتلازم هاتين الصفتين في النص المسرحي جعلت له خصوصية عجيبة في تكوينه وأساليب تأليفه.

    إن الآنية هي التي تؤدي إلى سرعة التغيرات في أصول الكتابة، لكنها ليست وحدها التي تحكم قواعد التأليف المسرحي. فإن ديمومة النزعات الإنسانية فرضت على فن التأليف قواعد ثابتة لم تتغير ولن تتغير لأنها الوعاء الذي يضع فيه الكاتب آنية عصره في خلود بقاء الإنسان وبقاء نوازعه الأساسية. وتتجلى هذه القواعد في ( الصراع- تصاعد الحكاية دراميا- دقة بناء الشخصيات في تطورها عموديا وأفقيا ). وهذه القواعد نجدها راسخة في جميع المذاهب والاتجاهات والمدارس المسرحية وفي جميع الأشكال الكثيرة التنوع التي دخلها التأليف المسرحي.

   و الآنية تترك أثرا مرعبا على النص المسرحي. وهي أنه يصبح متخلفا عن عصره بمجرد الانتهاء من كتابته. فالمشكلة أو القضية التي عالجها الكاتب أو الطموحات التي سعى إلى تصويرها ووصفها اليوم، سيحل محلها مشاكل وقضايا وطموحات جديدة بعد مدة قد لا تزيد عن سنوات قليلة. ولأن الكاتب مضطر أن يكون ضاريا في التصوير، فإن المجتمع البشري لا يكون إلا ضاريا في التغيير. فلا يكون أمام النص المسرحي إلا أن يصاب بآفة التخلف عن عصره شاء أم أبى .

    و يزيد من التعجيل في تخلف النص المسرحي عن عصره أن الحكاية فيه ليست مقصودة بذاتها فحسب بل وبمراميها أيضا وذلك على عكس الرواية والشعر.

الهدف الأعلى :

    لهذا كان (الهدف الأعلى) واحدا من أخص خصائص التأليف والعرض في المسرح، لأنه غاية الغايات في العملية المسرحية كلها. وليس الهدف الأعلى إلا ( الفكرة التي رفع الكاتب القلم لإبرازها ) كما يقول ستانسلافسكي، والتي يجب على الممثل والمخرج وجميع عناصر العرض المسرحي أن يبحثوا عنها ويبرزوها وإلا كان مجموع ما عملوه إلى بوار. وهذا الهدف الأعلى هو جوهر المعايشة والآنية اللتين يقصدهما الكاتب ويقصد إليهما القارئ والمتفرج. ولولا هذا الهدف الأعلى بتجليه في المعايشة والآنية لما دخل صالات المسرح أحد. فإن المتفرج لا يذهب إلى المسرح لكي يتمتع بالحكاية في الدرجة الأولى بل يذهب إلى المسرح ليشارك الآخرين في متابعة قضية من قضايا عصره المؤرقة له، لكي يكون لنفسه رأيا مشتركا بينه وبين أقرانه من أبناء عصره.

آفة النص المسرحي:

   إن الآنية والمعايشة والأهداف العليا التي تترك أثرها الحاسم على المتلقين، تترك تأثيرها الحاسم على النص المسرحي نفسه. فبمقدار ما هي ميزته هي آفته. وهذه الآفة هي أن النص المسرحي يفتقد الكثير من قيمته الأدبية والفنية والفكرية بعد ما لا يزيد عن عشرين عاما من كتابته. فيصبح بعدها غير قابل للحياة على خشبة المسرح. ويتحول أو يكاد إلى أثر متحفي.

    إن سمات النص المسرحي (الآنية والمعايشة والهدف الأعلى) التي تؤدي إلى هذه الآفة القاتلة له بعد التماع وارتفاع تجعل له ميزة خاصة به، هي أنه واحد من أضرى أسلحة تطور المسرح نفسه وتجديده، ومن أرهف مناحي تطوير النقد المسرحي، ومن أبرع عوامل الارتقاء بالذائقة الجمالية عند الناس.

    فلكي يحافظ الكاتب على الآنية والمعايشة والهدف الأعلى، يجد نفسه مضطرا لأن يفترع أسلوبا جديدا في فن كتابة المسرح. ويكون هذا الأسلوب معادلا فنيا للواقع الاجتماعي والذوق الجمالي السائد في عصره. ودليل ذلك أن كتاب كل جيل يتخذون أصولا واحدة في الكتابة رغم التمايزات الكبيرة بينهم في تجليات هذه الأصول. وهم، رغم اختلاف موضوعاتهم، يدافعون عن أهداف عليا واحدة تشكل المطالب الأساسية لمجتمعهم في عصرهم ذاك.

   إن افتراع الكتاب لأساليب الكتابة بغية التعبير عن الآنية والمعايشة والهدف الأعلى في العصر والمرحلة والمطالب الاجتماعية فيهما، يولد كل محاولات التجريب في المسرح ولسرعة التغييرات الاجتماعية التي تستتبع تغييرات في وسائل تعبير المسرح عنها، كان التأليف  المسرحي حقلا للابتكار والتجديد. ومن هنا كثرت محاولات التجريب التي إن أحصينا فيها أعلاما بارزين، فإننا نعجز عن ملاحقتها جميعا.

علاقة المسرح بالذوق الجمالي:

    ولا يمكن للنص المسرحي وما معه من عوامل العرض المسرحي أن يرتفع بالذائقة الجمالية عند الناس إلا إذا كان واعيا تماما للجماليات الفنية السائدة في عصره في الفن التشكيلي وفي الموسيقى وفي الأدب عموما، وفي الشعر على الخصوص. ومن جماليات هذه الفنون جميعا ينطلق الكاتب في بناء حكايته وتشييد حبكته ورسم شخصياته.

   إن فن المسرح جماع الفنون. فإذا جمعها في يده بقبضة محكمة استطاع أن يرتقي بها كلها، فيترك على الشعر بصماته في أسلوب توجهه إلى الناس. ويوحي إلى الفن التشكيلي بطرائق في الرسم والنحت، تقترب من ذائقة الناس الجمالية حتى يصبح فنا أصيلا في الثقافة العربية. وهو أمر لم يتحقق له حتى الآن.    

فرحان بلبل: النص المسرحي: الكلمة والفعل. منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2003، ص126 وما بعدها (بتصرف).

  




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-