سوسيولوجية القصيدة العربية لنجيب العوفي.

 

سوسيولوجية القصيدة العربية:

 

نجيب العوفي.

 

الذات والجماعة في الشعر الكلاسيكي:

   كان الشاعر العربي ، خاصة في المراحل الأولى حيث كان الشعر هو الجهاز الإعلامي والثقافي الأول، هو الناطق الرسمي بلسان الجماعة المعبرة عن إديولوجيتها ورؤاها والحامي لمصالحها وحماها. كان اللسان العربي الذي يتفوق أحيانا على السنان. فعلى الرغم من أن الشعر العربي غنائي وذاتي في الأساس، إلا أن غنائيته مشحونة بأصوات الجماعة وأصدائها ككورس ضمني و أحيانا علني. ومن ثم يبدو إيقاعها في الأغلب خطابيا جهيرا إن لم نقل ملحميا. كما يبدو الجمهور حاضرا باستمرار في ذاكرة الشاعر، فهو المرسل و المرسل إليه. وليس الشاعر، في آخر المطاف، سوى أداة وصل بين الطرفين، سوى منفذ للرسالة الشعرية وحامل لها. وهذا ما يجعل القصيدة العربية وثيقة إبداعية سيكو− سوسيولوجية، تلتحم فيها هواجس الذات مع هواجس الجماعة حد التماهي. وهذا ما يجعل ضمير الجماعة (نحن) هو المسيطر نحويا على كثير من قصائد الشعر العربي الكلاسيكي. لنقرأ مقطعا من أقدم نماذج الشعر، وهو معلقة عمرو بن كلثوم

               وقد علم القبائل من مـــــعد             إذا قبـب بأبطــحها بـنـيــنا

               بأنا المطعمون إذا قدرنــــا             وأنا المـهلكون إذا ابـتلـــينا

               وأنا المانـعون لما أردنـــــا            وأنا النازلون بـحيث شيــنا

               لنا الدنيا ومن أمسى عليها            ونبطش حين نبطش قادرينا

      أيهما يتحدث هنا أنا الشاعر أم أنا القبيلة؟ الأنا المفرد أم الأنا الجمعي؟ واضح أن هناك التحاما واندغاما بين الضميرين. فالقبيلة تتحدث بلسان الشاعر والشاعر يتحدث بلسان القبيلة. وما دام الشاعر عضوا مرموقا في قبيلته وحنجرة متميزة فيها، فأصوات القبيلة كلها محتشدة على لسانه. إن القبيلة برمتها هي التي تتحدث.

القيم المجتمعية  والذات الشاعرة في الشعر الجاهلي:

    والقيم المهيمنة على مجتمع كهذا هي قيم الفروسية الرعوية المتغطرسة التي لا تعرف الامتثال والانقياد، ولا ترضى بأنصاف الحلول (لنا الصدر دون العامين أو القبر)، ولا تصلح من ثم لتأسيس وبناء مجتمع مدني مُسَيَّس وتوطيد سلطة مركزية موحدة، هي التي حاول الدين الإسلامي في منتصف القرن السادس للميلاد أن يكبح من جماحها ويخفف من عتوها. كان نداء الإسلام واضحا(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون). وكان مشروعه بالتالي محددا، أن يؤسس دولة باسم الدين. وأن يجمع القبائل العربية  المبعثرة المنشغلة بتناقضاتها الداخلية في بنيان مرصوص يشد بعضه بعضا، وأن يطوي المرحلة السابقة طيا ويشن قطيعة معها.

 ضمير المتكلم في الشعر الإسلامي:

    وهكذا أصيب الشعر في هذه المرحلة بحالة ‹‹شيزوفرينية›› معقدة، نتيجة وقوفه في مهاب رياح متضاربة وعند مفترق طرق دقيق. ففقد تبعا لذلك كثيرا من عنفوانه السابق. والشعر كما يقول الأصمعي:(نكد بابه الشر، فانه أدخلته في باب الخير لان). وكذلك حصل، إذ تحولت القصيدة الإسلامية إلى منشور ديني و إديولوجي مباشر في الأغلب الأعم. يقول كعب بن مالك:

عجــيب لأمــــــر الله و الله قادر        علــى مـــا أراد، ليس لله قاهــر

قضى يوم بدر أن نلاقي معشرا         بغوا، وسبيل البغي بالناس جائر

 الأنا الشاعرة في الشعر الأموي:

     ما إن اجتازت الدعوة الإسلامية امتحانها الصعب في الأربعين سنة الأولى من عمرها، وتوطدت دعائم السلطة المركزية مع نشوء الدولة الأموية الأوتوقراطية، حتى استعاد الشعر عنفوانه السابق، شكلا ومحتوى. استعاد صوته و ذاكرته وعقله الباطن. ولم يكن ثمة أوامر و نواة صارمة تلجم لسانه وتحد من غلوائه. فليغو الشعراء ويستغووا وليهيموا في أودية الخيال وليكذبوا ويتقولوا شريطة أن لا (يتقولوا) على الدولة و أن لا يمسوا كيانها بالأذى. وهكذا استيقظ الأنا القبلي من جديد عبر أبيات و قوافي القصيدة العربية. يقول الفرزدق:

أحلامنا تـزن الجـــبال رزانة       وتخــالنا جـــنا إذا ما نـــجهــــل

ما دفع بكف، إن أردت بناءنا       ثلهلان ذا الهضبات هل يتحلحل؟

وآنا  ابن حنظلة الأغر وإنني        في آل ضـــبة للمـــعم المـــخول

   وقد نتج عن هذه الردة السيكولوجية على مستوى الملفوظ الشعري، مفارقة جلية وصارخة: البنية السطحية للمجتمع والدولة بنية مدنية متحضرة، والبنية الذهنية العميقة لهما بنية رعوية وقبلية لما تزل. وهل يتحلحل (يتحرك) ثهلان ذو الهضبات، كما قال الفرزدق؟...

 وظيفة الشاعر العباسي:

  وعلى امتداد الحقبة الأموية ورديفتها الحقبة العباسية، كف الشاعر عن أن يكون رائد قومه وضمير أمته، وأصبح موظفا رسميا أو شبه رسمي عند الدولة، إن لم نقل أصبح مهرجا ومسليا للخليفة. وبقدر ما أصبح الشاعر قريبا من الدولة أصبح بعيدا عن المجتمع، عن المعترك الشعبي الذي أنبته وخرج من أصلابه. وتحول بذلك إلى مثقف(ميكيافيلي) انتهازي لا يهمه أن يسخر رنين قوافيه من أجل رنين الدنانير. ولا يهمه أن يتحالف مع السلطة ضدا على(رعايا) أو ضحايا هذه السلطة. والغاية تبرر الوسيلة. آفة الارتزاق بالشعر إذن، أو ما اصطلح عليه بظاهرة التكسب، هي الآفة التي أصيب بها الشعر العربي و أفقدته صدق ومصداقيته، وأفرغته من القيم الإنسانية الحقة وإن ظل محتفظا بالقيم الفنية والأدبية .

   وعلى الرغم من المحاولات الدائبة التي قام بها دعاة التجديد والابتداع لزعزعة هذا العمود(الحديدي)، إلا أن رسوخه كان أقوى من محاولاتهم و طموحاتهم وكانوا مضطرين، آخر المطاف، إلى أن يعودوا ليستظلوا بسقفه ويطوفوا حوله. ذلك أن البنية السوسيوثقافية كانت قد تشكلت واتخذت صيغتها النهائية مند صعود الخلافة الأموية، وظلت محتفظة بصيغتها هذه حتى سقوط الخلافة العثمانية. ولم تتخلخل هذه البنية بعمق و تفقد توازنها إلا بعد الصدمة الكولونيالية − الامبريالية الحديثة بدءا من دوي مدافع نابليون، إلى الدوي الشديد للمدافع متعددة الجنسيات والطلقات.

خصائص القصيدة الحديثة:

    لقد تحطم العمود السياسي القديم بأمجاده وانتكاساته، وتحطم معه العمود الشعري القديم بأمجاده وانتكاساته أيضا. تفتت الكيان التاريخي والحضاري الذي كان بمثابة البنيان الشامخ المرصوص، إلى ما يشبه الفسيفساء السوريالية، بل ما يشبه لوحة الشطرنج، يحركها لاعبون مهرة. فكانت القصيدة الحديثة بتشكيلها العروضي التفعيلي وبهندستها المعمارية المفتوحة على الاحتمالات والمفاجآت، كانت القصيدة الحديثة صك إدانة ومشروع تأسيس.

    وإذا كانت القصيدة العربية الكلاسيكية تتراوح في الأغلب بين الهجاء والمديح والفخر والغزل، فإن القصيدة الحديثة تتراوح في الأغلب بين قطبي الهجاء والرثاء، هجاء الواقع المرفوض ورثائه في آن. لنستمع إلى أحد كبار شعراء العصر، بدر شاكر السياب:

خرائب، فانزع الأبواب عنها تغد أطلالا،

خوال قد تصك الريح نافذة فتشرعها إلى الصبح.

تطل عليك منها عين بوم دائب النوح.

     لكن القصيدة العربية في اللحظة التاريخية الراهنة، أصبحت تعيش في عصر إشكالي وفي مجتمع أعقد إشكالا. مجتمع يتحرك ظاهرا على إيقاع الكمبيوتر وباطنا على إيقاع الساعة الرملية. في هذا المناخ الملغوم تتنفس القصيدة العربية المعاصرة.

نجيب العوفي. ظواهر نصية. عيون المقالات.

مطبعة النجاح الجديدة. الدار البيضاء. ط1. 1992. ص,67 وما بعدها (بتصرف).





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-