المنهج البنيوي:

 

المنهج البنيوي:


صلاح فضل.

 

بداية ظهور المنهج البنيوي:

   ابتداء، لم ينبثق المنهج البنيوي في الفكر الأدبي والنقدي وفي الدراسات الإنسانية فجأة، وإنما كانت له إرهاصات عديدة اختمرت عبر النصف الأول من القرن العشرون في مجموعة من البيئات والمدارس والاتجاهات المتعددة والمتباينة مكانا وزمانا، لعل من أولها ما نشأ منذ مطلع القرن في حقل الدراسات  اللغوية على وجه التحديد، لأن هذا الحقل كان يمثل طليعة الفكر البنيوي، وإن لم تستخدم فيه منذ البداية المصطلحات البنيوية.

  لم يتعرض البنيويون بشكل مباشر لتحليل طبيعة علاقة الأدب – بالحياة، لأنهم منذ البداية حددوا مجال عملهم أنه ليس لغويا ولكنه ميتالغوي بمعنى أن المبدع – شاعرا، قصاصا، روائيا، كاتبا مسرحيا − يرى العالم ويكتب عنه، لكن الناقد ليس له علاقة مباشرة بهذا العالم، يرى العمل الإبداعي ويكتب عنه، فإذا بلغة النقد تسبح فوق لغة النص، وتحاول أن تقبض عليها و تمسك بها، وتحلل علاقتها. فإذا كان موضوع الأدب هو العالم فإن موضوع النقد الأدب وبذلك لم يعد النقد مجالا لبروز إيديولوجيات أو نظريات مرتبطة بجوانب سياسية أو اجتماعية أو تاريخية.

   كانت تلك أكبر خطوة جذرية لمحاولة تخليص النقد الأدبي - في سبيل أن يكون علما للأدب - من المنطلق الإيديولوجي، لأن بوسع الأدباء أن يكونوا إيديولوجيين، كما يشاءون، تفرض عليهم ذلك طبيعة موقفهم من الحياة، لكن النقاد يعميهم كثيرا أن يقعوا في هذه الإيديولوجيات نفسها، لأنهم حينئذ سوف يحتكمون في قراءة الأدب إلى معايير مسبقة في أذهانهم فلا يستطيعون رؤيته على حقيقته ولا اختبار كيفية أدائه لوظائفه التعبيرية والجمالية. بهذا المفهوم نجد أن فكرة الحقيقة قد تغيرت في النقد ابتداء من البنيويين، حيث لم تعد هناك حقيقة جوهرية فلسفية ينشدها المبدع بكتابته وينشدها الناقد بتحليله لهذه الكتابة. أما إذا كان للمبدع حريته في أن يرى ما يراه، فإنه لا يفعل ذلك إلا عبر قوانين المنطق ومجموعة الرموز المتماسكة في الأعمال الأدبية.

  معنى هذا أن نظرية الأدب ابتداء من البنيوية قد أصابها تحول جذري، لم تصبح نظرية في الحياة وإنما أصبحت نظرية في ظواهر الإبداع الأدبي من منظورها اللغوي والفني والجمالي، تندرج طبقا لذلك ضمن الفلسفة العامة التي تأسست عليها تيارات العلم الحديث ومشت موازية لها وهي فلسفة (الظاهراتية) والتي تتميز− على وجه التحديد − بحذفها للجانب الميتافيزيقي الغيبي في دراسة الأشياء وتركيزها على الجوانب التي تتجلى للإدراك، في لحظة معينة. هذه هي الفلسفة التي تحكم طبيعة المنطق العلمي في العصر الحديث.

مصطلحات المنهج البنيوي:

     البنيوية استندت إلى هذا الجدار الفلسفي المتين باعتبارها محاولة في تحويل دراسة الأدب ونقده إلى نوع من العلم الإنساني الذي يأخذ بأكبر قدر من روح المنهج العلمي. كان الغطاء النظري للبنيوية هو(علم اللغة). يمثل علم اللغة المنبع الحقيقي لمجموعة المصطلحات التي استخدمتها البنيوية في مجال النقد الأدبي، كما مثل أيضا منبع تلك المصطلحات التي استخدمت في المجالات المعرفية الموازية لها.

    في مقدمة  هذه المصطلحات، مصطلح ‹‹البنية›› لأنه هو التأسيس في العملية كلها ومصطلح البنية قد نشأ في علم النفس موازيا لفكرة الجشطالت أو الإدراك الكلي، وكان قد نشأ في الأنتربولوجيا أيضا لإدراك نظم العلاقات في المجتمعات البدائية والإنسانية بصفة عامة، ونشأ أيضا في علم اللغة، وأصبح من الضروري أيضا في النقد الأدبي. وتبلور مفهوم البنية في عدة قضايا يمكن ترتيبها على الوجه الآتي خاصة في ما يتصل بالنقد الأدبي:

     إن الأعمال الأدبية برمتها تمثل أبنية كلية لان دلالتها في الدرجة الأولى ترتبط بهذا الطابع الكلي لها. هذا التصور الكلي للأبنية، واعتبار البنى الجزئية ليست من الأجزاء المادية المحسوسة، هو جوهر النظرية البنيوية، فالقصيدة لا تصبح مجرد مجموعة من الأبيات، بل تبني من مستويات − تخترق هذه الأجزاء وتتغلغل فيها وتشتبك معها. يمكن أن ندرك من ذلك أن البنية الدلالية للقصيدة الشعرية مثلا هي محصلة مجموعة من البنى المتمثلة في البنية الإيقاعية والبنية التركيبية والتعبيرية والبنية التخييلية التي تصل إلى ذروتها في المستوى الرمزي الكلي.

أهداف المنهج البنيوي:

   ويظل هدف البنيوية هو الوصول إلى محاولة فهم المستويات المتعددة للأعمال الأدبية ودراسة علائقها وتراتبها والعناصر المهيمنة على غيرها وكيفية تولدها ثم − وهذا أهم شيء − كيفية أدائها لوظائفها الجمالية والشعرية على وجه الخصوص، واقتضى التركيز على هذا الجانب−الشعرية− اتخاذ عدة إجراءات موقوتة، منها ذلك المبدأ الذي أثار قضية كبرى في الأوساط الأدبية و النقدية، لأنه كان يتمثل في استعارة فهمها الناس−لكي يسخروا من البنيوية−فهما حرفيا. فقد اطلع البنيويون شعار(موت المؤلف) لكي يضعوا حدا للتيارات النفسية والاجتماعية في دراسة الأدب  ونقده، وبدأ تركيزهم على النص ذاته بغض النظر عن مؤلفه، أيا كان هذا المؤلف والعصر الذي ينتمي إليه والمعلومات المتصلة به.

     انطلق البنيويون على أساس رفض أحكام القيمة الخارجية وإحلال حكم آخر محلها هو حكم الواقع، وحكم الواقع لا يتمثل هنا في الحياة الخارجية ولا تياراتها وإنما يتمثل، في الدرجة الأولى، في النص الأدبي ذاته، الواقع هو النص الأدبي ذاته، ما ينبثق من النص وما يتجلى فيه. ما يتمثل فيه من كفاءة شعرية و مستوى أدبي، كل ذلك هو الذي يمثل قيمته و ليس علاقته بغيره من المستويات الخارجية سواء أكانت نفسية أو اجتماعية أو تاريخية أو غير ذلك من المستويات. فإحلال حكم الواقع محل حكم القيمة كان من تلك المنطلقات المؤسسة للمفاهيم البنيوية.

     أصبح العالم منذ السبعينات في ما يتصل بالأدب والنقد شديد الميل إلى التبنين، إلى إعادة قراءة المنهجيات المتعامدة والمتداخلة لبلورة هذا التطور المفاهيمي والمعرفي للفكر النقدي، لم يتخلف عن ذلك أنصار (الميثولوجيا) القديمة مثل الماركسيين، والوجوديين وغيرهم، فغزت المصطلحات البنيوية بقية الحقول المعرفية بالتوازي مع الأدب والنقد، وشكلت الإطار المفاهيمي العام للفكر والثقافة في العالم في العقود الأخيرة، حتى إن التيارات التي أعقبتها كانت تأسيسا عليها وتنمية لمبادئها وتداركها للنواقص التي أسفرت الخبرة الإبداعية والفكرية عن تحديدها في مسارها.

     وفي ما يتصل بثقافتنا العربية مثل التيار البنيوي منطلقا هاما لتجديد الخطاب النقدي في العالم العربي عبر عدد من الدوائر المنتشرة في مختلف أنحاء العالم العربي.

صلاح فضل: مناهج النقد المعاصر.

أفريقيا الشرق.2002 ص: 6 وما بعدها(بتصرف).





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-