مدخل لدراسة الشعر الحديث(2).

 

مدخل لدراسة الشعر الحر (2) : 


خصائص الشعر الحديث


1.    المضامين والقضايا التي غذت حركة الشعر الحديث:

   من المؤكد أن الحديث عن القضايا الشعرية الحديثة ليست بالضرورة حديثا عن المضمون أو الغرض بمفهومه الكلاسيكي لأن الشعر الحديث استقر على مبدأ تحطيم مقاربة الأغراض والمضامين الشعرية القديمة من مدح وغزل ورثاء وغيرها، وحول القصيدة إلى تجربة شعرية أو رؤية فكرية للذات والواقع.

    معنى لك أن هذه الرؤية الفكرية ليست مضمونا أو معنى بالمعنى المتداول وإنما هي رؤية متكاملة تتداخل فيها أبعاد الشكل والمضمون، لتعبر عن رؤية جمالية وفلسفية وفكرية تنطلق من المعطيات الواقعية. غير أن تجربة الشاعر لم تعد منحصرة في الذات في بعدها الفردي فقط،  وانما تجاوزتها لتعبر عن تجربة إنسانية تلتحم فيها الذات بالجماعة، خارج إطار الزمان والمكان. وعموما يمكن أن نلخص القضايا التي غذت مضامين التجربة الشعرية الحديثة في التيمات التالية:


1.1. تجربة الحياة والموت:

   تعكس موضوعةالحياة والموت إيمان الشاعر بالتحول والاستمرار الدائمين. و بموجبها ينطلق الشاعر الحديث من قناعة فكرية قاعدتها أن العالم والكون يخضعان لجدلية الموت والحياة. غير أن الموت عنده لا يعنى نهاية الواقع بقدر ما يعني بعثه من جديد. وإذا كانت الأمة العربية تعيش في تصوره مرحلة موت فان البعث والحياة لابد وأن ينبثق من جديد. وبهذا المعنى يشكل الموت  خاصية الواقع الحاضر بينما تصبح الحياة هي الرؤيا التي ينبني عليها المستقبل. يقول أدونيس وهو يرى بأن حضارتنا - حضارة الموت - تنتظر الولادة من جديد:

 

إنني لحظة المعجزات

لحظة الموت والحياة

أنا الدم النافر من حضارة ذبيحة. 

 

   ولعل السياب من أبرز الشعراء المحدثين الذين احتفوا غاية الاحتفال بموضوعة الموت والحياة  والأمل  في البعث من جديد. غير أن البعث وميلاد الحضارة  الجديدة  مرتبط أشد الارتباط بالتضحية. يقول في قصيدته " النهر والموت " :

 

أود لو غرقت في دمي إلى القرار.

لأحمل العبء مع البشر.

وأبعث الحياة إن موتي انتصار.

 

   إلى جانب بدر شاكر السياب نجد البياتي يعبر من خلال تجربة الموت والحياة عن قدرته على اكتشاف الواقع وفهمه. لكن الحياة والبعث عنده يعنيان شيئا واحدا  وهو الثورة والتغيير الجذري بواسطة النضال، خاصة عندما يقول:

 

لابد أن تنهار

روما وأن يبعث من هذا الرماد نار.

لابد أن يولد من هذا الجنين الميت الثوار. 


2.2. تجربة الغربة والضياع: 

 إن إحساس الشاعر بالغربة والضياع جاء نتيجة إخفاقات الإنسان العربي وانعكاسا لتوالي الهزائم والنكبات المتتالية. غير أن تجربة الغربة والضياع لم تكن تجربة عربية خالصة بل سبق وأن تبلورت  كتجربة شعرية عند شعراء غربيين كإليوت مثلا في قصيدته "الأرض الخراب" و " رجال الجوف ". 

   وقد اتخذت تجربة الغربة والضياع في الشعر الحديث ألوانا وأشكالا مختلفة تباينت بين الغربة في الكون والغربة في المدينة والغربة في الكلمة والغربة في الحب. 

  وقد عبر السياب عن غربته الكونية عندما تساءل عن سر الزمان في قصيدته عن جيكور قائلا:

 

جيكور ماذا؟ 

أنمشي نحن في الزمن؟ 

أم إنه الماشي؟ 

ونحن فيه وقوف.

أين أوله بل أين آخره؟ 

هل مر أطوله؟ 

أم مر أقصره؟ الممتد في الشجن. 

   وكما أحس الشاعر العربي بالغربة الكونية أحس كذلك بالغربة في المدينة والمجتمع الذي ينتمي إليه، والذي غدا جامدا تسوده علاقات الاستغلال اللاإنسانية. ولعل أبرز تجلياته قول صلاح عبد الصبور:

 

أموت لا يعرفني أحد. 

أموت لا يبكي أحد. 

   ومن أبرز تجليات الغربة والضياع عند الشعراء المحدثين الغربة في الكلمة، خاصة وأن هؤلاء أرادوا من شعرهم أن يكون كلمة قوية، لكن جهل مخاطبيه جعله يغترب بكلمته لاقتناعه بأنها لا تصل إليهم. ولعل هذا ما عبر عنه البياتي في "سفر الفقر والثورة " :


لمن تغني هذه الجنادب؟ 

لمن تضيء هذه الكواكب؟ 

لمن تدق هذه الأجراس؟ 

وأين يمضي الناس؟

هذا بلا أمس وهذا غده قيثارة خرساء. 

داعبها فانقطعت أوتارها ولاذ بالصهباء. 

 




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-