رصيد معرفي: إحياء النموذج

 

     نموذج تحليل نص شعري:        لي في من مضى مثل:       

محمود سامي البارودي.

. وضع النص في سياقه الأدبي والفني:

   تتفق مختلف الدراسات التي تتبعت مسار تطور الشعر العربي، أن حركة إحياء النموذج جاءت كرد فعل على ما عرفه الخطاب الشعري من جمود وانحطاط خلال العصر العثماني. 

  ويرى كثير من النقاد أن هذه الحركة تأسست على مبدأ استلهام النماذج الكلاسيكية ومحاكاة طرائقها في اللفظ والمعنى، كآلية لإعادة بناء الشعر على أسسه القديمة، من متانة التركيب وجزالة اللفظ ونصاعة المعنى، وقوة الجرس الموسيقي. 

  وقد تبلورت كاتجاه فكري وأدبي من خلال إنتاجات عدد من الشعراء، كأحمد شوقي، علال الفاسي، معروف الرصافي، وحافظ إبراهيم، إلى جانب محمود سامي البارودي، صاحب القصيدة قيد الدراسة والتحليل.

           . إشكالية التحليل:

·      فما المضامين التي يختزنها النص؟

·      وما الأنساق الجمالية والفنية التي عبرت عنها؟

·      وإلى أي مدى يعكس النص خصائص خطابات البعث والإحياء؟

   . صياغة فرضية لقراءة النص:

   يحيل عنوان النص – بعيدا عن اعتباراته النحوية – على مبدأ الإحيائيين في استلهام الموروث القديم والاقتداء به، باعتباره مستقر المثل الأعلى، ويسمح لنا، بناء على ذلك، أن نفترض أن النص يندرج ضمن خطابات إحياء النموذج.

   ويتعزز هذا الافتراض بمشهد القصيدة الفيزيائي، الذي حافظ على الشكل العمودي ونظام الشطرين، إضافة إلى النزعة الفكرية والأدبية لمحمود سامي البارودي، باعتباره رائد الاتباعية في الشعر العربي المعاصر.

              . تكثيف المعاني الواردة في النص:

   على مستوى المضمون، يكشف تحليل الإيواليات الشعرية عن غياب وحدة موضوعية تتحكم في بناء النص، الذي يتشكل من أربع وحدات معنوية، تصور كل واحدة منها مرحلة من مراحل حياة الشاعر، منذ مرحلة الصبى إلى مرحلة النضج.

   فبعد أن استهل الشاعر القصيدة بمقدمة عاطفية ضمنها حنينه إلى أيام شبابه المفعمة بالحب، مبديا أسفه على انقضائها، ومؤكدا أن مذهبه في المحبة مستلهم من سنة السلف، انتقل إلى الإشادة بفروسيته ومهارته في خوض المعارك، وحنكته في الفتك بأعدائه واستعمال السيف. 

  إثر ذلك عمد إلى تصوير رحلاته الممتعة للصيد، بمعية رفاق لم يعهد منهم إلا الكرم والوفاء وحسن العشرة. ليختم النص بأبيات حكمية تعكس خبرته الحياتية، يوجه فيها المتلقي في تعامله مع غيره، وينصحه بالتمييز بين المواقف التي تستلزم التريث أو الاستعجال، مشيرا إلى إن القيم التي قدمها مستمدة من الأدب المأثور الذي يفترض أن تتوارثه الأجيال.

    مضمون النص إذن، قائم على تعدد الموضوعات، مستلهم من عمق الذاكرة الشعرية التراثية، ويعكس انسحابا شبه تام للذات الشاعرة مقابل اكتساح الآخر للمشهد الفيزيائي، وتلك خاصية من خصائص خطاب البعث والإحياء. 

              . المعجم:

   وللتعبير عن المضامين السابقة، توسل الشاعر بمعجم تراثي، يتراوح بين السهولة والتعقيد، ألفاظه المهيمنة مستمدة من حقل الفروسية (باترات، الضراب، أشقر...) وحقل الوصف ( مشتعل، زرق، سود، خضر، هطلاء...)، إلى جانب حقل الحكمة الذي استغرق الأبيات الخمسة الأخيرة. وبين الحقول علاقة تكامل وانسجام، يخدم بموجبها الحقل الآخر ويدعم دلالته.

  ويمكن أن نلمس هيمنة واضحة لحقل الفروسية عــلى حساب الحقلين الآخرين،

 لأنه يشكل محور مواضيع القصيدة، والبؤرة الدلالية التي تنبني عليها.

               . البنية الإيقاعية:

 إيقاعيا، تشكلت القصيدة خارجيا على بحر البسيط، الذي يعكس بتركيبه تركيب شخصية الشاعر – الشاب المحب، الفارس والحكيم – محافظة على وحدة القافية وحرف الروي.

   أما على المستوى الداخلي، فيمكن أن نلاحظ تكثيفا لأسلوب التكرار على حساب التوازي الذي ساهم في تعزيز الطاقة الإيقاعية الداخلية للنص، وفي تحقيق تماسكه الصوتي وانسجامه، رغم اقتصاره على مظهره الصرفي في  البيت التاسع.

 وعلى العموم، فإن إيقاع القصيدة قد نزع إلى صهر الأنساق الصوتية القائمة على التنوع تارة، وعلى التكرار بكل تجلياته تارة أخرى ( تكرار الصوائت والصوامت، وتكرار الكلمات والصيغ الصرفية والنسق العروضي.(

أما على المستوى الداخلي، فيمكن أن نلاحظ تكثيفا لأسلوب التكرار على حساب التوازي الذي ساهم في تعزيز الطاقة الإيقاعية الداخلية للنص، وفي تحقيق تماسكه الصوتي وانسجامه، رغم اقتصاره على مظهره الصرفي في البيت التاسع.

 وإجمالا، فإن إيقاع القصيدة قد نزع إلى صهر الأنساق الصوتية القائمة على التنوع تارة، وعلى التكرار بكل تجلياته تارة أخرى ( تكرار الصوائت والصوامت، وتكرار الكلمات والصيغ الصرفية والنسق العروضي ).

              . الصورة الشعرية: 

   أما على المستوى الفني، تكاثفت الصور الشعرية بتكاثف المستويات الدلالية التي تضمنتها القصيدة. وقد اعتمد الشاعر في تشكيل هذه الصور، على تركيبات لفظية ترتكز أساسا على التشبيه ( كأنه خاض، كأنه شعلة...)، والاستعارة ( نازعتني النفس، أطلعتني الكلل..). وهي آليات بلاغية كلاسيكية تكرس بلاغة الوضوح التي راهن عليها الخطاب الإحيائي.

 وقد وردت مختلف الصور الشعرية في القصيدة جزئية مفككة، تعتمد وحدة البيت الشعري، تخاطب سلطة العقل وتقيد هامش الخيال، لكونها تستحضر طرف المتلقي، وتضطلع بوظيفة تزيينية جمالية، وتلك خاصية من خصائص خطابات إحياء النموذج.

               . الأسلوب: 

   تركيبيا، تتباين أساليب النص، حسب تباين الموضوعات، بين أسلوب وصفي، سردي وخطابي، تنتظم في بنيات جملية تغلب عليها الخبرية.

ويمكن أن نلاحظ هيمنة الفعل الماضي على المقدمة العاطفية للإحالة على تمام التجربة وانقضاء الفعل، بينما يؤشر الفعل المضارع في الوحدتين الثانية والثالثة على حيوية الشاعر وديناميته في المعارك وفي رحلات الصيد. وقد خرج فعل الأمر، في الخاتمة الحكمية، عن أصل وضعه لغرض بلاغي هو النصح والإرشاد.

              . الخلاصة التركيبية: 

    يتضح من خلال معالجة المستويات السابقة، أن الشاعر ظل وفيا لنـهج النموذج الكلاسيكي. فقد وظف معجما تراثيا للتعبير عن موضوعات مستمدة من النماذج الشعرية القديمة، متوسلا بآليات بلاغية تخدم غاية الوضوح، وببنية إيقاعية حافظت على هندسة الشكل العمودي ونظام الشطرين. 

وكل هذه المستويات تبين أن النص قد استلهم إلى حد كبير مواضعات مدرسة البعث والإحياء، وتؤكد صحة الفرضية التي افترضناها آنفا في المقدمة.

الدكتور عمر عودى( 2014 ): مناهج قراءة النصوص الأدبية للسنة الثانية من سلك البكالوريا: مسلك الآداب والعلوم الإنسانية. الصفحة 34.

تعديل المقال