القصة القصيرة: دم ودخان لمبارك ربيع.

 

دم ودخان


 البداية: 

عندما توقف دحمان عند مسطبة المعلم علي، تناول هذا قطعة الكرشة الغليظة والشحم في كفه كعليم برغبة زبونه وسأل : كم ؟

       لكن دحمان لوى رأسه في حركة متعبة ومد ورقة من عشرة دراهم إلى الرجل وهو يقول:

- كبد ...غنم.

       وبدا التعجب على العم علي وهو يتناول الورقة ، ودحمان يردف بعد استراحة.

- كيلو.

- بشحم ؟

       وهز دحمان رأسه موافقا ثم تابع بصوته المتعب:

 - شحم رقيق ..

     كان بوده لو ملك قدرة على الكلام في هذه اللحظة. وإذن لثرثر كثيرا مع العم علي، وأرضى تساؤلاته، لكنه أخذ مطلوبه مع باقي النقود وانصرف.

     أحاط به الأطفال فترة في البيت ثم تركوه، وتحلقوا حول أمهم حين بدأ المجمر يرسل دخانا داكنا لذيذا منعشا. وراقب دحمان حركات الزوجة وهرج الأطفال في برود، وتمتم بينه وبين نفسه: إنهم فرحون إنها تتملظ...تتوحم.

     وتصاعد الدخان، في البيت حتى امتنعت الرؤية، واتكأ دحمان على الحائط ودبيب النمل يسري في ذراعه ويشتد، حتى يصبح خدرا يعم نصف الجسم، ويشعر بأنه عاجز عن الحركة، أو عن إرادة الحركة، ولم يتحرك؟ إنه لا يرى ولا ينام ولا يرفض. لم يكن خدر الذراع يخلو من لذة كلذة اليوم عند جلسته تلك، على أريكة فخمة مطاوعة أحس أثناءها كأنه يطير أو كأن جسمه فقد وزنه.

الوسط:

      كان ذلك عندما فتح الباب وأطل الممرض، فتقدم دحمان، ويد رجل مجلبب بشوش خلفه تربت على كتفيه، وصوت يهمس له من ورائه:  الكلمة هي الرجل !

      لم يلتفت دحمان وإنما تبع الممرض نحو غرفة معقدة التركيب، وإذا هو أمام طبيب شاب تدلت السماعة على صدره، سأله : - ورقة الدم ؟

     وأخرجها دحمان من جيبه، اتسخت لطول العهد وللإهمال، وربما لكثرة ما أخرجها دحمان منذ سنين…من يدري ماذا كان يخالج دحمان كلما تفرس في هذه الورقة ؟ كلما أحس بها معه ؟ منذ سنوات. منذ الأيام الأولى لعلاقته بهذه الورقة، كان يشعر باعتزاز ثم فقد هذا الشعور شيئا فشيئا، كما يفقد كل جديد رواءه…لكنه ظل يفاجئ الورقة بين الحين والحين متأملا خطوطها الغامضة التي توحي إليه بالكثير الغامض..

     وسأله الطبيب :

- لم تعط دما منذ مدة.

   وبحشرجة صوت غير مطاوع أجاب دحمان :- منذ أكادير … كانت المرة الوحيدة.

   وقلب الطبيب الورقة محاولا أن يكتشف شيئا على ظهرها، كأن ما على وجهها غير مقنع، وعاد يسأل : علاقتك بالمريضة ؟

- أمي.

 وزم شفتيه حتى لا تتمردا فتضيفا شيئا.

- أكلت شيئا منذ الصباح ؟

تناول خبزا وشايا وعليه أن يكذب، وألا يظهر الكذب، وعمد إلى جواب هُيِّئ في أناة:

- صائم يا سيدي.

      تمتم الطبيب موافقا وقاد الرجل إلى أريكة فخمة، أحس دحمان أنه يطير، أو أن جسمه يفقد ثقله وهو يجلس عليها لطراوتها ... وأحس كأن نوما يراوده، والطبيب يعدل من جلسته في هدوء ولطف. ثم سرت في ذراعه برودة الكحول وانغرزت شوكة، وصوت الطبيب يأمره بلطف :  انظر إلى الحائط.

    ولم تمتنع الرؤية على الحائط فقطرات الدم تتساقط في الزجاجة داكنة مع نبضاته، كأنه يحدق فيها.

- أغمض عينيك.

      وفي الإغماض أيضا لم تمتنع الرؤية ففضل دحمان أن يحدق في كل شيء، وكأنما يئس الطبيب من أوامره فتركه وشأنه، والبقعة الداكنة تتراكم في قعر الزجاجة، ويد لطيفة مدربة ترفع الزجاجة وتحركها بين الحين والحين، وبعد دهر، نزعت الشوكة، وحلت مكانها لزقة. وقام دحمان وعيناه تتبعان الزجاجة في طريقها إلى مكان آخر ... وظل يسير ملتفتا حتى كاد يصطدم بالممرض وما يحمل:

- قهوة ؟

      ورشف دحمان، كانت منعشة، وخرج. تلقفته عند الباب يد رجل مجلبب بشوش تربت على كتفيه، كانوا ثلاثة أو أربعة من أهل المريضة، وعلى بعد أمتار من المستشفى حدق دحمان في ورقة العشرة دراهم، والوجه البشوش يردد : - الكلمة ... الكلمة !

     حاول دحمان أن يصرخ محتجا لكن صوته صدر خافتا واهنا : - قلنا خمسين.

- قلنا عشرة.

- الكلمة هي الرجل.

-  الكلمة عشرة.

       والتف الناس حولهم. كان صوت الخصم أقوى وأوضح :- عشرة ... عشرة يا ناس !

       وصوت أقوى ووضوحا :

- يبيع حياته بعشرة !؟

       وأحس دحمان بأنه يثير الاشمئزاز، وأن الجمع ضده وأنه ضد نفسه ... مذنب وظالم وخسيس هو، صوته لا يطاوعه، وهو متأكد من أن ذلك ليس نتيجة مرض بل لمجرد أن صوته يتمرد عليه ... فليفكر في طريقة للاحتجاج ينقذ بها موقفه ما دام صوته يتمرد. ولتطعه اليدان، وخطف ورقة العشرة دراهم ليقطعها، لكن يدا أدركته، كانت حركته في التقطيع كاذبة زائفة، لذلك أحس بالامتنان نحو اليد التي أنقذت الورقة واختلطت أمامه الوجوه والأصوات بعد ذلك، فانفلت يتحسن الورقة التي كانت تخشخش في يده ...

النهاية: 

       أخرجته زوجته من تأملاته بحركة على كتفه وبصوت :

- نمت يا دحمان ؟

       بل كان يجتر يومه وتململ، وعادت تقول :

 - خذ.

      وتناول منها السفود المعدني بعد أن أخطأه مرارا لتكاثف الدخان أو بفعل خدر الذراع. وبدت له قطع الكبد الملفوف بالشحم، المتراصة في السفود، مجرد بقع دخانية أشد كثافة. ولاك إحداها. حركها في شدقيه، ولزوجتها تمتنع في المضغ، فأعاد تحريكها من شدق إلى شدق، وقد طغت على ذهنه صورة يد ناعمة مدربة تحرك زجاجة في قعرها بقعة داكنة تتزايد.


مبارك ربيع: دم ودخان، مكتبة المعارف، الرباط، 1980.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-