مسرحية الكنز: توفيق الحكيم:

 

الكنز:


(مشهد يمثل صاحب البيت السيد محمود وزوجته وخطيب ابنتها درية، وهو من الأثرياء، جاء لزيارتهم، ويجلس إلى الخطيبة، بينما هي ترفض الارتباط به):

الخطيب : ( يشير إلى الفنجان الرابع ) شاي الآنسة درية!...

الأب    : ( ملتفتا إلى الأم ) ماذا جرى لها؟ ذهبت لتحضر منديلها ولم تعد؟

الأم     : مشاغل البيت... مسكينة ...إنها نشيطة أكثر من اللازم...لا تريد أن تترك للخدم أبسط الأمور تحب دائما أن يتم كل شيء بإشرافها ! لحظة واحدة ، سأرى ماذا تصنع  .(تنهض و تخرج من القاعة).

الأب   : (للخطيب) حقيقة هذه البنت نادرة المثال .ولا أقول ذلك لأنها ابنتنا الوحيدة. ولكن الحق يجب أن يقال .إنها هي روح بيتنا!

الخطيب : و أنا يسرني أن آخذ روحكم ...وسترون كيف أدخلها جنة مفروشة بورق البنكنوت ...وهذا طبعا ليس بكثير على صاحب ثروة تقدر الآن ، كما تعلمون، بستين ألف جنيه !...

الأب   : و نحن يسرنا أن نعطيك فلذة كبدنا . لا من أجل الثروة ، ولكن من أجل ذوقك و لطفك وخفة ظلك

الأم    : (بالباب منادية زوجها) محمود ! ...

الأب  : (للخطيب وهو ينهض) عن إذنك !...

الأم   : (همسا للأب على عتبة الباب ) "درية" في حجرتها تبكي، إنها ترفض هذا الخطيب ولا تريد أن تجلس إليه أكثر مما جلست!

الأب : (همسا للأم ) ترفض هذا الخطيب .؟ !.. ترفض هذا الكنز ... !؟...

الأم  : إنها ترفض هذا الكنز و كفى !...

الأب  : مغفلة ... وما العمل الآن ؟...

الأم  : فلنعتذر له الساعة عن مجيئها ... ثم نحاول بعد ذلك إقناعها !...

الأم  : ( تتقدم إلى الخطيب و تجلس) لا تؤاخدنا ..."درية" شعرت بصداع خفيف جعلها تعتكف...

الخادم : ( يدخل معلنا ) رجل بالباب يطلب مقابلة سيد البك في أمر مهم..!

الأب  : ما اسمه ؟...

الخادم : سألته فقال إن الاسم لا يفيد شيئا و إن الموضوع هو المهم ...

الأب : ماذا يقول ؟ ...

الأم  : يقول إنه يوجد في هذا المنزل كنز مخبوء يقدر بأموال طائلة !...

الأب : كنز !...كنز!...

الأم : قال لي ذلك همسا ... وهو مستعد للاتفاق معك على إخراجه  ... وإذا رفضت مقابلته ، فإنه سيذهب إلى جهات الاختصاص ويبلغ عن وجود هذا الكنز فورا ! ...

الأب  : ( ينهض على قدميه )  أهذا معقول ؟... في بيتنا هذا كنز ؟!...

الأم  : لا تضيع الوقت في هذه الأسئلة التي لا طائل تحتها ... الرجل بالباب استدعيه إذا شئت . واعرف منه ما تريد... ولا تدعه ينتظر أكثر من ذلك ...أدخله أو اصرفه ...

الأب : كيف أصرفه ؟ ... بل يدخل ...أدخلوه ...لا ضرر من سؤاله ومناقشته على كل حال ... هذا موضوع مسل و طريف ...أليس كذلك يا "أبا العز بك" ؟!...

الخطيب : طبعا ... من ذا يرفض الفرجة على "شمهروش " بالمجان ؟!...

الأم  : (للخادم ) قل للرجل أن يتفضل !...

الخطيب : نصيحة لوجه الله يا ''محمود بك '' ... احذر أن تعطي هذا الساحر مليما قبل أن يخرج كنزه الموهوم ... فقد كثرت في هذه الأعوام حوادث النصب والاحتيال على الوجهاء والأعيان !...

الأب : (يفحصه بنظرة) أنت الساحر ؟!...

الساحر : هل خيبت ظنك يا سيدي ؟ ...ماذا كنت تتوقع أن ترى ؟...

الأب : ما علينا ... هذا موضوع ثانوي ؛ فلنطرق مباشرة الموضوع الأهم ...هل أنت واثق من وجود كنز في هذا البيت ؟...

الساحر : ثقتي من وجودك الآن أمامي !...

الخطيب : هل تسمح لي أن أسألك كيف عرفت ذلك ؟ ...

الساحر: رأيت !...

الخطيب : إذا كانت عين حضرتك تستطيع أن ترى المال المخبوء في الحيطان ؛ فهل تستطيع أن ترى المال المخبوء في جيبي ؟ ...

الساحر : عيني لا ترى نقودا ولكنها ترى كنوزا !

الأب  : إذن ما الكنز الذي في بيتي ؟ ...

الساحر : جواهر كريمة ! ...

الأب : الماء يكذب الغطاس كما يقول المثل السائر، والحيطان تكذب الساحر، وهاهي ذي الحيطان موجودة والساحر موجود !

الساحر : أنا قابل للتحدي، ولكن قبل كل شيء ... لي عندكم طلب بسيط !.

الأب : تكلم !...

الساحر : هو أن تكفوا عن اعتباري ساحرا ، فأنا مع الأسف لا أفقه شيئا في السحر !...

الأب : و ماذا تفقه إذا ؟...

الساحر  : اسمح لي أن أقدم نفسي حتى يكون كل شيء واضحا ... أنا اسمي" مراد عبد الله " مهندس أخصائي في مصلحة المناجم في جامعة "كمبردج".

الأب : ( باحترام ) حصل لنا الشرف !...

الخطيب: اسأل حضرة المهندس أن يشرح لك الطريق التي رأت بها عينه الكنز داخل الحائط؟!...لو كان ساحرا كنا على الأقل صدقا ... و لكنه يقول إنه لا يعرف السحر ... فما الطريقة إذن ؟... فهمونا يا ناس!

مراد : العلم يا سيدي البك ... العلم هو سحر العصر الحديث!...

الأب : ( للخطيب ) نعم، العلم ! ...

الخطيب : اشرح لنا هذا العلم من فضلك و أقنعنا كيف ترى كنزا من خلف الجدران ؟!...

مراد : هنالك نوع من الأشعة الكشافة تستطيع أن تشعها بعض الأجسام النادرة ... وهذه الظاهرة العجيبة شاء الحظ أن توجد عندي، فأنا أحس وجود الجواهر والمعادن في المباني أو الأراضي بمجرد الدنو منها، و لقد مررت أمام هذا البيت القديم فشعرت في الحال بهزة خاصة في نفسي ، أدركت معها أنه لا بد أن يكون في المنزل كنز ؛ ولما كنت أعرف هزتي أمام المعادن ، فهذه الهزة قطعا تدل على وجود جوهر أرقى من المعدن وأنفس !...هل اقتنعت الآن ؟...

الخطيب : لا أقتنع إلا إذا فسرت لي ...

الأب : أنا اقتنعت... نحن تحت تصرفك يا مراد بك ... بماذا تأمر ؟

مراد : البحث عن الشخص الذي يفتح عليه الكنز !...

الخطيب : ما شاء الله ! أهذا أيضا من العلم ، يا حضرة الأخصائي في مصلحة التنجيم .. أقصد المناجم !

مراد : اسمحوا لي  بفحص الموجودين في هذا المنزل أولا ...ربما وجدنا من بينهم من يصلح !...

الأب : (للأم) من فضلك نادي على الموجودين كلهم هنا! ...

الأم : لا يوجد الآن غير الخادم هنا ...

الأب : فليحضر الموجود ... انتظري ...أنسيت "درية"؟...

الأم : درية!... إنها ...

الأب : اسأليها أن تحضر ثانية واحدة...(الأم تخرج بسرعة)

الخطيب : (بسخرية) ابدأ بفحصي يا حضرة الأخصائي ...من يدري ...ربما بقدرة قادر ينفتح علي الكنز ؟

مراد: (بكل جد ) تفضل. تقدم. أرني حدقتي عينيك قليلا (يحدق فيها ) لا يا سيدي مستحيل. حضرتك ينفتح عليك منجم نفط !

الخطيب (بغضب) : زفت ؟...

مراد : نفط ...نفط ...النفط غير الزفت !...(الأم تخرج وخلفها "درية" والخادم).

الأم : (لمراد) " درية" بنتي !...

مراد : لي الشرف ... تسمحين يا آنسة ...(يحدق في عينيها ) الحمد لله ... حظ سعيد حقا ...هاهي ذي من تصلح أن يفتح عليها كنز الجواهر ...

الخطيب : ولماذا يا حضرة الأخصائي لا يختار الكنز إلا عيون الآنسة ؟...

الأب : (نافذ الصبر) و لماذا تريد أن يعمى الكنز ويفتح على عيون حضرتك ؟...

الخطيب : سلام عليكم ...(يخرج بسرعة).

الأب : سلام و رحمة الله !... اشرع في إجراءاتك يا "مراد بك "!...

مراد :حضرته ذهب غضبان !...

الأب : حضرته يذهب إلى داهية لا ترجعه !... حضرته تحملنا كثيرا ثقل ظله، و قلة ذوقه، وسخف عقله !... ما علينا ... تفضل يا أستاذ ... طلباتك؟

مراد : ليس لي بعد من طلب إلا أن تبقى الآنسة التي سيفتح عليها الكنز.(يخرج الجميع و يتركون مراد و درية وحدهما ).

مراد : تفضلي يا آنسة ... استريحي في هذا المقعد الكبير !...

درية : هل أفهم من ذلك أنك ستوحي إلي إيحاء خفيا ... أو أنك ستنقل إلي إيمانك ، فأرى ما ترى ... وأعتقد ما تعتقد ، على النحو الذي كان يأتيه بعض الكهان في غابر الأزمان ؟...

مراد : ليست لي هذه القدرة. ما أنا إلا شخص عادي، و لقد كذبت الساعة على أهلك إذ زعمت لهم أنه ينبعث من جسمي إشعاعات كشافة ...

درية : كما كذبت بالطبع إذ زعمت لهم أن عيني تصدر إشعاعات حساسة!...

مراد : كالمخاطب نفسه (أكان من الضروري أن ألجأ إلى هذه الطريقة ؟. يؤلمني أن تعتقدي أني رجل دجال!

درية : لن أعتقد ذلك ... الدجال رجل صاحب براعة و لكنه ليس صاحب إيمان !...

مراد : ثقي أن إيماني لا يزول أبدا !...

درية : أعرف ذلك !...

مراد : نعم . إني مؤمن بحقيقة شعوري الذي لا يخطئ !...

درية : كل الصعوبة أن تجد الذي يصدق حقيقة شعورك !...

مراد : حتى و لا أنت ؟...

درية : و ما قيمتي أنا وحدي ؟...

مراد : لا تقولي ذلك ... أنت كل شيء ... أنت وحدك التي أحفل بحكمها ... أنت وحدك التي أطمع في حسن ظنها ...

درية : وهل رأيتني من قبل ؟ ...

مراد : نعم ... في شرفتك منذ أسابيع و كنت أرى أو يخيل إلي أني أرى روحك النبيلة المتأملة الحالمة وهي تسبح في سماوات المعاني، فتضفي على وجهك جلالا وسموا ؛ فكنت أقول في نفسي : (هذا الكنز الإنساني كالجوهر الكريم ،لا يستمد رواءه و ضياءه من منظره الخارجي وحده ، بل من خصائص روحه الداخلية ؛ فإن فيها موطن البريق ومبعث الإشراق!

درية : اسمع يا ... أتسمح لي أن أناديك باسمك المجرد ؟...

مراد : نعم ... أرجوك ... ناديني : يا "مراد" ...

درية : اسمع يا " مراد " إني أخاف ذلك "الإيمان" . أخشى ـ كما قلت لك ـ أن يخلق لك شيئا غير موجود هل أنا حقا كما صورت ؟...

مراد : قلت إن إيماني لا يمكن أن يخطئ ... إنك لا تعرفين نفسك كما أعرفك !...

درية : إنك لم تعرفني إلا منذ دقائق !...

مراد : الإيمان لا يعرف الزمن إنه ينبثق من أعماق القلب في لحظة فيكشف ظلمات الآزال والآباد !...

درية : "مراد" ؟! إني أصدقك !...

مراد : هذا كل مطمحي !... الآن أستطيع أن أقف في وجه الدنيا!...

درية : يجب أن تستعد لتقف أولا في وجه أبي !...

(الأب و الأم يظهران ...)

الأب : ( يجيل بصره في الحيطان والأركان والكراسي و المائدة ) أين الكنز ؟!...

مراد : موجود ألا تراه ؟...

الأب : (يتلفت) لا ... أين ؟...

الأب : وهل تراه أنت ؟...

مراد: ؛ طبعا !...

الأب : كلكم ؟... "درية" ؟ ... هل ترينه ؟...

درية : طبعا يا أبي ... أراه بعيني رأسي ، أمامي !...

الأب : شيء غريب : سأفقد عقلي . ترينه بعينيك . أين؟ أين هو ؟( يلتفت إلى الأم التي تبحث هي الأخرى بعينيها ) و أنت أيضا أترينه ؟

درية : ( تسرع صائحة ) أبي ... اسمع ... يجب أن نتفق أولا على معنى "الكنز" ... ماذا تقصد بالكنز ؟...

الأب : ماذا أقصد بالكنز ؟ ... أقصد الكنز ... الجواهر ... جواهر تساوي مائة ألف جنيه !...

مراد : في هذه الحالة ... اتفقنا ( يشير إلى درية ) هذا هو الكنز !...

الأب : ماذا تقول !؟...

مراد : هذه الروح المضيئة في هذا الهيكل جوهرة نادرة لا تزن خمسين قيراطا فقط بل كيلوغراما ! ... فهي تساوي في الحقيقة أضعاف المائة ألف جنيه !...

الأب : ( صارخا في نوبة عصبية ) يا لك من مشعوذ ! ... يا لك من دجال! ... لقد خربت بيتي وأضعت آمالي ... و جعلتني أطرد الرجل المالي ... ضيعت من أيدينا الأموال .!..

الأم : ( تصب له في الحال فنجان شاي ) اشرب هذا يا "محمود" هدئ أعصابك!. هدئ روعك ... هدئ نفسك !

درية : ( و معها "مراد" يحوطان الأب ) صحتك يا أبي !... صحتك هي كل مالنا ... هي خير لدينا من آلاف الجنيهات ... لا تجعل للمال كل هذه القيمة !...

الأب :( يهدأ قليلا ) " درية " ! ... بنتي ... كل همي هذا من أجلك ، من أجل مستقبلك أنت .

درية :  لا تهتم كثيرا بمستقبلي يا أبي !... إني أرى هذا المستقبل على طريقتي أنا ... و بعيني أنا ... أنا التي  أرى "الكنز" !...

الأب : (يرفع رأسه) ترين الكنز ؟...

درية : نعم ..ها هو ذا ... ( تشير إلى "مراد" هو " الإيمان" الذي يضئ في .

الأب : ( ينظر إلى "مراد" ساخرا ، ثم ينظر إلى "درية" ) يا لها من جواهر ثمينة !!...

درية : تلك هي نظرتنا إلى الحياة يا أبي ... و تلك في أعيننا هي الجواهر الحقيقية !...

الأم : ( للأب ) صدقت و الله " درية " يا "محمود" ... الحق أن لكل إنسان في هذه الحياة كنزه الثمين، العبرة هي أن يعرفه و يكشفه و يقنع به ... أنا أيضا لي " كنزي " !...

                                                        

توفيق الحكيم : مسرح المجتمع

مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله .تونس .1987، ص : 321 وما بعدها .( بتصرف)

 




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-