الضرورة والحرية بين العلوم الإنسانية والفلسفة المعاصرة:

 

الضرورة والحرية بين العلوم الإنسانية والفلسفة المعاصرة:


إشكال المحور:

- هل الشخص حر في بناء شخصيته؟ أم إنه خاضع للضرورة؟

    - ما المقصود بالحرية؟

معنى الحرية والضرورة:

الحرية تعكس حالة كائن لا يعاني الإكراه، ويتصرف طبقا لمشيئته. وهي بذلك تعني الاستقلال عن الأسباب الخارجية.

ماذا تعني الضرورة؟

أما مفهوم الضرورة فيتميز عن مفهوم الحتمية ومفهوم الجبرية أو الإجبار. فأما الحتمية فمفهوم علمي يقصد به تلك الشروط الضرورية التي تتحكم في تحديد ظاهرة معينة. في حين تحيل الجبرية على المذهب الفلسفي والعقائدي الذي يعتقد أن جميع أحداث الكون، وبالخصوص الفعل البشري، متصلة اتصالا تاما، تحدث فيه الأشياء في لحظة معينة من الزمن، بالشكل الذي لا تكون فيه لا اللحظات السابقة ولا اللاحقة سوى حالة واحدة متوافقة مع اللحظة الأولى.

من خلال هذا التحديد المفاهيمي ينبثق سؤال مركزي هو: ما دور الشخص في بناء شخصيته؟ هل هو حر في وجوده؟ أم إنه خاضع للضرورة؟ وهل ماهية الشخص هي التي تتحكم في تحديد وجوده؟ أم إن وجوده هو الذي يضطلع بتحديد ما هيته؟

إن محاولة الانطلاق من التعريف الذي صاغه ايمانويل كانط لمفهوم الشخص، والذي اعتبر أنه ذات تنسب إليها مسؤولية أفعالها، فإن مفهوم المسؤولية في هذا التعريف يتطلب تحديد  مفهوم آخر هو مفهوم الحرية. لكن السؤال الذي يطرح في جميع الحالات هو هل يتحمل الإنسان مسؤولية أفعال لم يخترها بمحض إرادته، وإنما وجد نفسه مجبرا على فعلها؟

من هنا فإن مقاربة إشكالية حرية الشخص تنفتح على تيارين متباينين: تيار ينظر الى الشخص ككائن حر يحدد طبيعة وجوده بنفسه، وتيار آخر يراه كائنا خاضعا للحتميات والقوانين التي تصوغ له الكيفية التي ينبغي له أن يكون عليها، أي أن وجوده خاضع للتحكم.

إن اختلاف وجهات النظر في مقاربة هذه الإشكالية هو محور النقاش الدائر بين العلوم الإنسانية والخطاب الفلسفي حول ظروف عيش الإنسان، وحول تأرجحه بين الحرية والضرورة.

إشكالية الحرية و الضرورة في العلوم الإنسانية:

يكاد يجمع خطاب العلوم الإنسانية خصوصا في شق السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا و السيكولوجيا، باعتبارها خطابات دافعت عن الحتمية " العلموية "، على أن تحديد وجود الشخص يتم وفق قوانين علمية ومبادئ محددة مسبقا، بناء على قناعة مفادها أن ماهية الإنسان سابقة على وجوده.

أ- علم النفس:

تذهب خطابات علم النفس إلى أن الشخص نتاج ميكانيزمات نفسية تحدد في الأخير النمط الذي تكون عليه شخصيته، وما يجب أن يكون عليه. وفي هذا الإطار يحدد سيجموند فرويد ثلاثة عناصر يعتبرها أساسية في تحديد الشخصية هي: الأنا والأنا الأعلى والهو ومواقع هذه المكونات الثلاث وطريقة اشتغالها هي التي تحدد في الأخير نمط الشخصية والكيفية التي ستكون عليها.

ب- السوسيولوجيا:

يتحدث خطاب السوسيولوجيا عن الإكراهات المجتمعية، وعن الدور الحاسم الذي تضطلع به في بناء شخصية الفرد. وهذا ما وضحه إميل دوركايم وهو يستعرض خصائص الظاهرة الاجتماعية محددا إياها في الخارجية والقسرية والعمومية، وهذه الخصائص تجعل الظواهر الاجتماعية هي التي تفرض الكيفية التي يكون عليها الفرد أو ينبغي أن يكون عليها. وفي هذا السياق يقول دوركايم إنه كلما تحدث الفرد فإن المجتمع هو الذي يتحدث من خلاله. ومن هذا المنطلق فإن الشخص هو ما يحدده المجتمع وليس ما يريده الشخص في حد ذاته.

غير أن النظرة التي نظرت بها العلوم الانسانية إلى موضوع الحرية لدى الشخص، إنما توصلت إليه من خلال نظرتها إلى الإنسان باعتباره موضوعا، بل شيئا أعلنت موته، خصوصا عندما ربطت وجوده بمفهوم البنية. لذلك نجد أن الفلسفة المعاصرة عملت جاهدة على انتقاد هذا التصور وفق قناعات فلسفية أخرى.

الحرية والضرورة في الفلسفة المعاصرة:

في المقابل تتفق خطابات الفلسفة المعاصرة على أن وجود الإنسان سابق لماهيته. لذلك عملت جاهدة لتعيد الاعتبار للشخص من خلال تأكيدها على حريته، لأنها ترى أن لا إنسانية دون حرية.

أ- المدرسة الوجودية:

وهذا التصور يتجلى بوضوح عند المدرسة الوجودية التي يتزعمها سارتر، والتي اعتبرت أن الإنسان مشروع، وأنه لا يمكن أن يكون إلا ما يصنعه بنفسه. لأن من خصائصه قدرته الدائمة على تجاوز الوضعية التي هو عليها، ويتجه نحو المستقبل. وهو بذلك يحقق ماهيته بحرية ومسؤولية. لذلك نجد سارتر يميز في الموجودات بين الموجود لذاته، وهو الشخص باعتباره كائنا حرا قادرا على تحقيق ما يريد، وبين الموجودات في ذاتها وهي الأشياء التي تتقيد بالحتميات.

الإنسان من منظور سارتر ليس سوى مشروع الوجود الذي سبق وتصوره. ووجوده بهذا المعنى هو مجموع ما حققه، ومصيره لا يتحدد إلا من خلاله. لذلك نجد أن الوجودية فلسفة تحث على العمل ولا تؤمن بوجود الله بل وتحمل الإنسانية مسؤولية أفعالها، لأنها واعية ووجودها يرتبط بوعيها، كما سبق وحدد ذلك ديكارت من خلال الكوجيتو.

ب- المدرسة الشخصانية:

يرجع الفضل في تأسيس المدرسة  الشخصانية إلى الفيلسوف الفرنسي إيمانويل مونييه. هذه المدرسة حاولت أن تعيد الاعتبار للإنسان، ونظرت إليه باعتباره كائنا فاعلا يخلق ذاته بذاته، من خلال عملية التشخصن. فهو كائن باستطاعته أن يتجاوز وضعه وأن ينفتح على العالم والكون، وهذه خاصية تميزه عن الكائنات الأخرى. ولذلك تعتبر الشخصانية أن حرية الإنسان مطلقة لأنه كائن قابل للإنطباع بشكل لا حصر له على امتداد التاريخ.

استنتاج:

من الأولويات التي حظيت بعناية الفلسفة أن تعيد الاعتبار للإنسان. لكن هذه الغاية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال النظر إلى الكائن باعتباره حرا. وهذه الحرية تتمثل في تحمل مسؤولية أفعاله وفي قدرته على أن يتخذ القرار بشكل إرادي واع دون إكراه أو حتمية خارجية. وهذا ما مثلته الوجودية والشخصانية في نظرتهما للإنسان باعتباره حرا. وحريته هذه قيمة ينفرد بها عن الكائنات الأخرى.





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-